"هذه سلسلة مقالات تبدأ باستعراض الإنجازات العلمية والفكرية والفلسفية للحضارات القديمة، وصولا الى ما قبل النهضة في أوروبا. ثم نستعرض إنجازات المسلمين وبعدها نتحدث عن بعض إنجازات أوروبا عصر النهضة وكيف تم تكريس المنهج العلمي منذ بدايات ابن الهيثم في كتابه المناظر ،عندما تحدث عن المنهج التجريبي وطبقه، وتثبيت فرانسيس بيكون له في كتابه الآلة الجديدة، بعد ٤-٥ قرون، في العالم الغربي كمنهج لتحصيل العلوم، وأطروحات رينيه ديكارت الأساسية في كتابه مقال في المنهج ، الذي يتمحور حول تطوير منهج عقلاني جديد للوصول إلى ما اسماه الحقيقة اليقينية في العلوم والفلسفة، مع رفض المناهج التقليدية المبنية على السلطة أو التقاليد، لنصل بعدها لاطروحات ما بعد الحداثة في موضوع المنهج العلمي والذي كان رائده والمتصدي الأبرز فيه هو فيلسوف العلم النمساوي بول فايراباند المعاصر، والذي رفع شعار " كل شئ ممكن/ يمشي" في كتابه ضد المنهج، في تحصيل العلم ، ونفصل في أطروحاته ، وفي مواقف المؤيدين والمعارضين له ومن ثم نصل لخلاصات في نهاية الحديث في آخر السلسلة عن المنهج واللامنهج وطرق تحصيل العلم، وفك بعض التناقضات التي مر بها العلم في تأليهه المنهج وتهميشه سبل الحصول على العلم الأخرى التي لا يمكن للمنهج أن يتعاطى معها "
كان الحديث في ١، ٢، و ٣ عن منجزات حضارات بلاد الرافدين والهند والصين وبلاد فارس والاغريق والرومان وحضارات أمريكا الوسطى والجنوبية ونكمل هنا لنتناول المنجزات العلمية والفلسفية والحضارية للمسلمين.
مع بزوغ نور الإسلام في جزيرة العرب، شهدت البشرية نهضة حضارية شاملة امتدت آثارها شرقًا وغربًا، فكانت الحضارة الإسلامية العربية تجسيدًا لتكامل الدين والعقل، والوحي والفكر، في منظومة معرفية أنتجت أعظم المنجزات الحضارية الإنسانية وكان لها الأثر فيما أتى بعدها من حضارات. فقد أسّس العرب بعد نزول الإسلام أعظم حركة ترجمة ونقل علمي، وانطلقوا نحو الإبداع في الطب والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة والجغرافيا، مؤسسين مدارس علمية ومراكز بحثية من بغداد ودمشق إلى قرطبة وسمرقند. وامتزجت الروحانية بالمنهج العقلي، فكانت العلوم تُنقّح وتُختبر في ضوء العقل والإيمان معًا. وقدّم العلماء المسلمون ، بغض النظر عن أصولهم العرقية، مؤلفات أصلية ومنهجيات غير مسبوقة أرست قواعد العلم الحديث. وبهذا، لم تكن الحضارة الإسلامية مجرد حافظة لتراث اليونان والصين والهند، بل كانت قوة منتجة ومجدة، وضعت الإنسان في مركز المعرفة، والعقل في قلب الإيمان. عندما فتح المسلمون بلاد فارس في القرن السابع الميلادي، وجدوا أنفسهم أمام تراث علمي عريق تزدهر فيه الأكاديميات والمدارس الكبرى مثل جنديسابور، التي كانت آنذاك تمثل مركزًا علميًا عالميًا يضم معارف اليونان والفرس والهنود والسريان، ومكتبة غنية بالكتب في الطب والفلك والفلسفة تجاوز تعداد الكتب فيها حينها المليون كتابا مع ملاحظة أن مكتبة الكونغريس الأمريكي لم يصل تعداد الكتاب فيها مليون كتاب الا عام ١٩٠٦م وتم الاحتفال بهذا الحدث باعتباره إنجازًا ثقافيًا كبيرًا. فاحتواء مكتبة جنديسابور مليون كتاب قبل ذلك بقرون طويلة، يعكس مدى تقدير القائمين عليها للعلم واحترامهم للعقل والتفكير والتأمل كما هي تعاليم القرآن لهم، فلم يتعامل المسلمون مع هذا الإرث كغنيمة، بل أدركوا قيمته ونظروا إليه ككنز معرفي ينبغي حفظه وتطويره. وهكذا بدأت حركة مبكرة لترجمة الأعمال العلمية والفلسفية إلى العربية، أولًا من الفهلوية والسريانية ثم من
اليونانية والهندية، وقد مثّلت هذه الحركة منعطفًا جوهريًا في تاريخ الحضارة الإسلامية والعالم.
في عهد الدولة الأموية، وخصوصًا في أواخرها، بدأت تتبلور حركة الترجمة، وواصلت نموها الى وقت الدولة العباسية حيث كان ازدهارها الحقيقي. وكانت المركز الرئيس أو العاصمة للدولة العباسية، كانت عاصمة العلم والفكر عندما أسس الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي بيت الحكمة. ، الذي عُدّ واحدًا من أعظم مؤسسات الترجمة والبحث العلمي في التاريخ. بيت الحكمة هذا، عمل فيه مترجمون بارزون ويُعد حُنين بن إسحاق (٨٧٣م)، ثابت بن قرة (٩٠١م)، وقسطا بن لوقا (٩١٢م) من أعلام الترجمة والعلم في العصر العباسي، وقد أسهموا بدور جوهري في نقل التراث اليوناني والسرياني إلى العربية وصياغته في إطار علمي عقلاني أثر لاحقًا في مسيرة الحضارة الإسلامية والغربية. وبرز حنين الطبيب النسطوري من الحيرة، كأهم مترجم لكتب الطب والفلسفة، خاصة مؤلفات جالينوس (٢١٦م) وأبقراط (٣٧٠ ق م)، وأنشأ مدرسة للترجمة ببغداد وضع فيها منهجًا لغويًا دقيقًا اعتمد المقارنة بين المخطوطات اليونانية والسريانية والعربية. أما ثابت بن قرة، الصابئي من حران، فجمع بين الترجمة والإبداع العلمي، وترك بصمة واضحة في مجالات الرياضيات والفلك والهندسة، وابتكر مفاهيم مهمة في علم الميكانيكا النظرية، كما ترجم أعمال إقليدس وأرخميدس وطوّرها. في حين عُرف قسطا بن لوقا، الطبيب والفيلسوف من بعلبك، بترجماته لكتب أرسطو وشرحه للمقولات الطبيعية، وبتجاربه في الطب والتشريح، وبتأكيده على دور الحس والتجربة في المعرفة، مما مهّد لظهور نزعة تجريبية ناضجة في الفكر العلمي في المجتمع الإسلامي.
الكندي أحد مؤسسي الفلسفة الاسلامية
لم تقتصر الحضارة الإسلامية في العصر العباسي على جمع الكتب وترجمتها من الثقافات الأخرى، بل تجاوزت ذلك إلى تطوير مناهج علمية ونقدية أصيلة، تجلّت في أعمال كبار العلماء المسلمين الذين لم يكتفوا بما نقلوه عن اليونان والفرس والهنود، بل قاموا بتمحيصه، وإعادة تركيبه، ونقده، ثم تجاوزه بمفاهيم جديدة، مما أدى إلى تفاعل خلاق بين النصوص المترجمة والإبداع الإسلامي الوليد. وشهد العصر العباسي الذهبي بروز فلاسفة كبار مثل الكندي، الذي يُعتبر أول فيلسوف عربي، وقد سعى إلى مواءمة الفلسفة اليونانية مع التعاليم الإسلامية (كالتأكيد على وحدة الحقيقة بين الفلسفة والوحي، فبدلا من تعدد العلل عند أرسطو طرح وجود العلة الوحيدة وهو الله كما هو في الإسلام للتوفيق بينهما). يعقوب بن إسحاق الكندي (٨٧٣م) يعتبر من أعظم علماء العصر العباسي وأحد مؤسسي الفلسفة الإسلامية والعلمية. جمع بين المعرفة النظرية والتطبيقية، وكان له دور رائد في إدخال الفلسفة اليونانية، لا سيما أعمال أرسطو وأفلاطون، إلى الثقافة العربية. عمل على تطوير مناهج التفكير العلمي، مستخدمًا الرياضيات والمنطق كأساس لتحليل الظواهر الطبيعية والكونية. أثر بشكل عميق في مجالات متنوعة مثل الفلسفة، الرياضيات، الفيزياء، الطب، الفلك، الموسيقى، والصيدلة. وكان من أوائل العلماء المسلمين الذين ساهموا بشكل ملموس في تطوير المنهج العلمي، وذلك عبر دمجه بين العقل والتجربة والملاحظة كأساس لفهم الظواهر، وهو توجه غير مسبوق بشكل منهجي في عصره. ويمكن تلخيص مساهماته في المنهج العلمي حيث مارس التجريب والملاحظة وأكد على ضرورة الملاحظة الدقيقة والتجربة المباشرة لفهم الظواهر الطبيعية، ورفض الاعتماد فقط على النقل أو التأويل المجرد. مثلاً، في دراساته في البصريات والفلك، حاول رصد وتفسير الظواهر بالاعتماد على الملاحظة والتجربة، وفي الاستدلال المنطقي والرياض، وظّف أدوات المنطق والرياضيات في صياغة وتفسير القضايا العلمية، ما جعل استنتاجاته أكثر وضوحًا ودقة. هذا الجمع بين التجربة والمنطق هو حجر الزاوية في المنهج العلمي، و نقد المقولات غير المبنية على دليل واضح، وشجع على اختبار الفرضيات ومقارنتها مع الواقع، بما يقترب من فكرة فرضية البحث العلمية. وسعى لتعميم القوانين التي يكتشفها، مثل قوانين الحركة أو الطبيعة، وطرح توقعات قابلة للاختبار، وكان من أوائل من دوّنوا تجاربهم وأفكارهم بشكل منهجي، ما ساعد على نقل المعرفة وتطويرها لاحقًا. وبأعماله المتعددة والغزيرة، كان الكندي رائدا في صياغة منهج علمي يعتمد على مزيج من التجربة، الملاحظة، المنطق، وهو أساس تطور العلوم لاحقًا في الحضارة الإسلامية وأوروبا، ومثل الجسر الواصل بين الفلسفة اليونانية القديمة والمنهج العلمي الحديث، حيث أدخل طابعًا تجريبيًا وعمليًا جديدًا في الفكر العلمي الإسلامي، وهذا ما صرح به المهتمون أمثال روزنثال في كتابه The Classical Heritage in Islam (1975) .
وهو مؤسس التعمية ( التشفير)
والكندي يعتبر أول من أسس علم التعمية بتحليل التكرار في فك الشفرات، فقد قام بأول معالجة علمية متكاملة نجدها في رسالته في استخراج المعمى ، حيث وضع منهج تحليل التكرار لاستنتاج الحروف عبر إحصاء تكرارها في النصوص، وهو ما اعتبره ديفيد كان “أقدم وصف معروف لتحليل الشيفرات الإحصائي” (Kahn, The Codebreakers, 1996). هذه الرسالة، التي وصلت إلينا عبر مخطوطات عربية، أسست لفك شيفرات الاستبدال البسيط. ولاحقًا، طوّر ابن عدلان الموصلي (١٢٦٨م) في رسالته مقالة في استخراج المعمى، منهج الكندي بإدخال التحليل السياقي والنحوي، وشرح أساليب التعمية العددية والرمزية.
وجاء بعد ذلك شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الله ابن الدريهم الموصلي (١٣٦١م) المعروف بابن الدريهم ويُعدّ من أبرز علماء القرن الثامن الهجري، وكان له اهتمام واسع ومتعدد في مجالات مختلفة تشمل علم التعمية أو التشفير، والرياضيات، والفلك، والفراسة، والشطرنج، والمنطق، مما يجعله واحداً من العلماء الموسوعيين الذين تركوا بصمة واضحة في عدة ميادين علمية وفكرية. ألّف ابن الدريهم العديد من الكتب التي تعكس تنوع اهتماماته واتساع معرفته. من بين مؤلفاته "إيقاظ المصيب في الشطرنج والمناصيب" الذي يتناول فيه قواعد الشطرنج وألعاب الذكاء، وكتاب "بسط الفوائد في شرح حساب القواعد" الذي يشرح قواعد الحساب، و"شرح الأسعردية في الحساب" الذي يهتم بمسائل حسابية متقدمة، وكتابه مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز يتناول الكتاب موضوعات فلسفية وعلمية متعددة، ويشتهر بأسلوبه الذي يجمع بين التصوف، الفلسفة، والعلوم الطبيعية، بالإضافة إلى محاولة تفسير بعض الرموز والمفاهيم الغامضة في التراث الإسلامي والفلسفي، فهو يعرض رؤية عميقة حول فهم الكون والحكمة الإلهية، ويركز على استكشاف المعاني الباطنية للرموز التي تستخدم في العلوم والفلسفة، وهو بذلك يجمع بين العلم الظاهري والمعرفة الباطنية، ويُعد من المصادر التي تعكس الفكر الإسلامي المتقدم في مجالات التأويل والتصوف الفلسفي كما كتب في الموسيقى باستخدام الحسابات الرياضية، ودرس بصريات الضوء وحركات الكواكب. وبالرغم من مرور قرون على وفاته، إلا أن مؤلفاته ما تزال تُدرس وتُبحث، مما يدل على أهمية إسهاماته في ميادين العلم المختلفة وثراء معرفته الموسوعية.
الفارابي " المعلم الثاني"
وبرز في هذه الحقبة الزمنية، أبو نصر محمد بن محمد الفارابي، (٩٥٠م) الذي يُلقب بـ"المعلم الثاني" بعد أرسطو، هو واحد من أعظم الفلاسفة والمفكرين في التاريخ الإسلامي والعالمي. عاش في القرن العاشر الميلادي، وكان له دور محوري في نقل الفلسفة اليونانية، خاصة أرسطو وأفلاطون، إلى الحضارة الإسلامية، كما عمل على تطويرها وصياغتها ضمن إطار فكري إسلامي متميز. كان الفارابي متعدد المواهب، إذ جمع بين الفلسفة، المنطق، الموسيقى، السياسة، والعلوم، مما جعله شخصية بارزة أسهمت في إثراء التراث الفكري والفلسفي. ومن من أبرز إنجازات الفارابي تطويره للمنطق كأداة أساسية في التفكير الفلسفي، حيث أضاف إلى المنطق الأرسطي تطورات مكنت الفلاسفة المسلمين اللاحقين من بناء نظريات معرفية أكثر تعقيدًا ودقة. وضع نظرية رصينة في السياسة وقدم نظرية رصينة في السياسة والعقل والمعرفة وهو مؤلف كتاب العقل، والمدينة الفاضلة وكتاب الموسيقى ورسالة الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون الإلهي وأرسطو متأثرًا بنموذج المدينة الفاضلة لأفلاطون لكنه أعاد صياغته بما يتوافق مع القيم الإسلامية. إضافة إلى ذلك، أبدع الفارابي في مجالات الموسيقى، حيث كتب كتاب "كتاب الموسيقى الكبير" الذي جمع فيه بين النظرية الموسيقية والفلسفة، مؤسسًا لعلم الموسيقى كعلم فلسفي وتحليلي. أما من حيث المؤلفات، فقد ترك الفارابي مجموعة كبيرة من الكتب والرسائل التي تناولت مواضيع متنوعة، مثل "المدينة الفاضلة" التي تعد من أهم مؤلفاته في الفلسفة السياسية، و"المنطق الكبير" الذي يمثل إضافة مهمة إلى علم المنطق، و"رسالة في الغاية العليا" التي تتناول معنى السعادة والهدف الأسمى للإنسان. لقد شكلت أفكار الفارابي قاعدة انطلقت منها حركة فكرية غنية في العالم الإسلامي وأثرت في الفلاسفة الأوربيين في العصور الوسطى، مما يجعله جسراً بين الفلسفة اليونانية والفكر الإسلامي والعالمي الحديث. ولابد من الإشارة هنا أن تسمية الفارابي لأفلاطون بالإلهي، لم يكن يقصد به أن أفلاطون نبي أو صاحب وحي، بل كان تعبيرًا عن اعتقاده وغيره من الدارسين، بأن أفكاره حول النفس، والفضيلة، والعدالة، وعالم المثل، تحمل طابعًا روحانيًا ساميًا يقترب من التصورات الدينية عن الغاية والمعنى. وذهب بعض الدارسين، مثل الأفلاطونيين المحدثين (اللذين أتو بعده بسبعة قرون، ودرسوا تراثه وراجعوه وطوروه بدمجه بالميتافيزيقيا ومنهم افلوطين، وبورفيري وغيرهما) الى أن افلاطون اقترب في فلسفته من الحكمة الإلهية، فجعلوه في منزلة "الحكيم الإلهي" مقابل أرسطو الذي رأوه أقرب إلى "الحكيم الطبيعي". الفارابي إذن تبنّى هذا التقليد الاصطلاحي عند ترجمته أو شرحه، فجاء وصف أفلاطون بـ"الإلهي" تعبيرًا عن مكانته في الفلسفة، لا عن أي صفة دينية بالمعنى الحرفي.
جابر ابن حيان (أبو الكيمياء) وبين انتاجه ٣٠٠ كتاب ومخطوطة
وفيها برز جابر بن حيان (٨١٥م) الذي يُعتبر مؤسس الكيمياء الحديثة وأحد أبرز رواد العلم في العصر الإسلامي المبكر. تميز جابر بعبقريته في دمج المعرفة النظرية بالتجربة العملية، حيث ابتكر العديد من التقنيات الكيميائية التي لا تزال أساساً في المختبرات حتى اليوم، مثل التقطير، التبلور، التخمير، والتحليل الكيميائي. وأسهم بعمق في تطوير المنهج العلمي من خلال تأكيده على التجريب والملاحظة كأساس لفهم الظواهر الطبيعية، ما شكّل نقلة نوعية في التفكير العلمي آنذاك، حيث ابتعد عن الاعتماد على الفلسفة المجردة فقط. وكان له دور ريادي في ميادين الكيمياء، الصيدلة، والطب، بالإضافة إلى مساهماته في الفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا، حيث كتب في موضوعات تتعلق بتكوين المادة وعناصر الكون. ترك جابر إرثاً ضخماً من المؤلفات التي تُنسب إليه، والتي قدّرها البعض بأكثر من 300 كتاب ومخطوطة، منها كتب عن الكيمياء مثل "الكتاب الكبير" و"كتاب الأسرار"، و"كتاب التجارب"، بالإضافة إلى مؤلفات في الصيدلة، المعادن، والزراعة. وعلى الرغم من الجدل حول نسبة بعض هذه الكتب له، إلا أن تأثيره على تطوير الكيمياء كعلم مستقل ومنهجي لا يُنكر، وقد كان مرجعية للعلماء في أوروبا خلال العصور الوسطى، حيث تُرجمت أعماله إلى اللاتينية ودرسها الفلاسفة والعلماء. بهذا الشكل، يعد جابر بن حيان رائدًا حقيقياً في تأسيس العلوم التجريبية في الحضارة الإسلامية، وواحدًا من أعمدة النهضة العلمية التي مهدت الطريق للعلوم الحديثة.
الخوارزمي وابتداع علم الجبر والصفر وتصحيح أخطاء بطليموس
وأرسى محمد بن موسى الخوارزمي (٨٥٠م) دعائمَ عوالمَ رياضيةٍ وجغرافيةٍ وفلكيةٍ بقدرةٍ فريدةٍ جمعت بين الإبداع والصرامة المنهجية. ففي كتابه "المختصر في حساب الجبر والمقابلة" ، لم يكتفِ بحل المعادلات التربيعية عبر منهجية "الإكمال والمقابلة" فحسب، بل أسس لعلمٍ جديدٍ – هو الجبر – بوصفه نظامًا مستقلًا قادرًا على تبسيط تعقيدات الميراث والتجارة وقياس الأراضي، مقدِّمًا تصنيفًا لستة أنواعٍ من المعادلات وشرحَ حلولها هندسيًّا. كما أدخل الصفر كنظامٍ عدديٍّ ثوري، محوِّلًا الحسابَ إلى النظام العشري، وناقلًا الأرقامَ الهندية إلى العالم الإسلامي ثم أوروبا، حيث اشتُقَّ مصطلح "الخوارزمية" من اسمه لوصف الخطوات الحسابية المنظمة. وفي الجغرافيا، صحح أخطاءَ بطليموس الجسيمة في كتابه "صورة الأرض"، ورسم خرائطَ دقيقةً لـ 2400 موقعٍ بالإشراف على 70 عالمًا، محددًا خطوطَ الطول والبعد بدقةٍ غير مسبوقةٍ للبحر المتوسط وآسيا وأفريقيا. ولم يكن عمله منعزلًا؛ بل نما في بيت الحكمة ببغداد تحت رعاية الخليفة المأمون، متفاعلًا مع ترجمات الأعمال اليونانية والهندية، وباحثًا مع علماء مثل بنو موسى في مشاريعَ كقياسِ محيط الأرض. لقد كان بالفعل هناك تداخل علمي في بيت الحكمة ببغداد، حيث عمل الخوارزمي (٨٥٠م) قبلهم أو في بدايات نشاطهم. تشير بعض المصادر إلى أن بني موسى ساهموا مع الخوارزمي وفريق المأمون في مشروع قياس محيط الأرض وتجهيز المراصد، كما استفادوا من أعماله في الجبر والفلك كأساس لبعض بحوثهم. لكن طبيعة التعاون كانت أقرب إلى التنسيق في إطار فريق علمي يشرف عليه الخليفة، وليس بالضرورة تأليف مشترك لكتب، إذ إن مؤلفات الخوارزمي كانت منفصلة عن كتب بني موسى، لكنهما عملا في بيئة بحثية واحدة وتبادلا المعارف. و هم ثلاثة إخوة، محمد واحمد والحسن من علماء بغداد في القرن التاسع الميلادي، كانوا من أسرة غنية وذات نفوذ، واشتهروا بعلوم الرياضيات والفلك والميكانيكا، وعملوا تحت رعاية الخليفة المأمون في بيت الحكمة. تعلموا على يد كبار المترجمين والعلماء، ثم أنجزوا مؤلفات رائدة، أشهرها كتاب "الحيل" الذي تضمن وصفًا لعشرات الأجهزة الميكانيكية المبتكرة، منها ساعات مائية وأدوات رفع وتحكم آلي، مما جعلهم من رواد الهندسة الميكانيكية ورواد في تطوير ما نسميه الآن روبوتات وواصل بعدهم الجزري هذا المسارالعلمي. كما أسهموا في تطوير علم الفلك، ووضعوا جداول فلكية دقيقة، وشاركوا في قياس محيط الأرض في عهد المأمون. تميز الخوارزمي برؤيةٍ عمليةٍ جعلت العلم خادمًا للحياة اليومية، فطور "الساعات الشمسية" لتحديد وقات الصلاة، وطور الخوارزمي الحسابات والطرق الرياضية التي تستخدم مع "مربع الظل" و “الآلة الرباعية" لقياس الارتفاعات الفلكية وركّز بالذات على الجداول الفلكية (الزيج) ووضع قواعد حساب المثلثات اللازمة لتشغيلها. وكان يؤمن بأن المعرفةَ يجب أن تُبنى على التجربة والملاحظة، ناقدًا بطليموس ليس فقط في الجغرافيا، بل أيضًا في الفلك عبر كتابه "زيج السند هند"، الذي قدم فيه 116 جدولًا فلكيًّا دقيقًا لحساب حركات الشمس والقمر، معتمدًا على بياناتٍ محسنةٍ لجيب الزاوية. وتكشف سيرة الخوارزمي عن قناعةٍ راسخةٍ بـ عالمية المعرفة، فترجمته للعلوم القديمة وتصويبه لها لم يكن سعيًّا وراء التفوق الثقافي فحسب، بل إيمانًا بأن الحكمةَ ميراثٌ إنسانيٌّ مشترك. ولا يزال إرثُه حيًّا: من "الجبر" في مناهج الرياضيات، إلى "الخوارزميات" في برمجة الحواسيب، شاهـدًا على أن رؤيـــاه كانت بذورًًا للثورة العلمية الحديثة.
النيسابوري وحل معادلات الدرجة الثالثة وتجاوز اقليدس
ومن أعلام العصر السلجوقي في الفلك والرياضيات والفلسفة عُمر الخيّام النيسابوري (١١٣١م) ، الذي جمع بين دقة العالِم وعمق الفيلسوف. عُرف في الرياضيات ببحوثه الرائدة في المعادلات الجبرية من الدرجة الثالثة، حيث قدّم حلولًا هندسية باستخدام تقاطع القطوع المخروطية، وهو ما سجله في مؤلفه رسالة في البرهان على مسائل الجبر والمقابلة. كما تناول في كتابه شرح ما أشكل من مصادرات كتاب إقليدس نقدًا لمسلمات الهندسة الإقليدية واقترح صيغًا بديلة، مما عُدّ تمهيدًا مبكرًا لظهور الهندسة اللاإقليدية. أما في الفلك، فقد ترأس لجنة إصلاح التقويم بأمر من السلطان ملكشاه، فوضع التقويم الجلالي سنة 1074م، الذي امتاز بدقة تفوق التقويم الميلادي الغريغوري، واعتمدت نتائجه قرونًا في المراصد الإسلامية، كما ترك جداول فلكية دقيقة لرصد الكواكب. وفي الفلسفة والأدب، جمع الخيّام بين الفكر الأرسطي والنزعة الأفلاطونية المحدثة، مع تأملات وجودية ذات طابع شعري، تجلت في رباعياته التي عبر فيها عن قضايا الزمن والموت واليقين والقدر بأسلوب رمزي ووجداني، فصار شعره من أبرز نماذج الشعر الفلسفي في التراث الفارسي. وارتبط الخيام بعلاقات علمية وثيقة مع علماء عصره مثل نظام الملك الطوسي الذي رعاه سياسيًا، وأبي حامد الغزالي الذي تقاطع معه في مجالس الفكر وإن اختلفت رؤاهما في المنهج. هذا التداخل بين نشاطه العلمي والفلسفي جعل إرثه يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، فانتقل أثره إلى أوروبا عن طريق الترجمات اللاتينية في القرون الوسطى.
الرازي (جالينوس العرب) وتطوير الكيمياء التجريبية ونقد بعض مدونات جالينوس وابقراط
ويعد أبو بكر الرازي (٩٢٥م) وهو الطبيبٌ والفيلسوفٌ والكيميائيٌّ الثائر، من عمالقة العصر الذهبي الإسلامي، فألف الحاوي في الطب التي ظلَّ مرجعًا أوروبيًا لقرون، وتميَّز بدقته التشخيصية في كتابه الجدري والحصبة ، كما اكتشف حمض الكبريتيك وطوَّر الكيمياء التجريبية. وعُرف بتجريبيته المتشددة، حتى إنه اختار مواقع المستشفيات باختبار وضع قطع اللحم في مختلف الأماكن المحتملة لقياس الهواء الفاسد، واختيار الأماكن الأقل فسادا من بينها. ورفض علاج عينيه عندما عجز طبيبه عن شرح تشريح العين. أُطلق على أبو بكر محمد بن زكريا الرازي لقب " الثائر" لأن مسيرته العلمية والفكرية تميزت بروح نقدية جريئة وابتكار متواصل، سواء في الطب أو الفلسفة.ففي الطب، لم يكتف الرازي بتلقّي المعارف الإغريقية والهندية كما هي، بل نقدها وراجعها على ضوء الملاحظة والتجربة، وهو ما فعله مع بعض آراء جالينوس وأبقراط. ألّف كتبًا ثورية في منهجها مثل الحاوي في الطب الذي جمع فيه خلاصات خبراته السريرية وملاحظاته الدقيقة على أمراض لم تُوصف من قبل، والجدري والحصبة الذي قدّم فيه أول وصف علمي لتمييز المرضين. وفي الفلسفة، تميز بآراء مخالفة للسائد في بعض المسائل الميتافيزيقية والدينية، ودعا إلى استخدام العقل المستقل في الحكم على الأمور، مما جعله يصطدم مع بعض معاصريه من المتكلمين ورجال الدين. كما رفض التعصب للموروث، واعتبر البحث الحر أساسًا للوصول إلى الحقيقة. هذه النزعة النقدية، مع إسهاماته التجديدية في الطب والمنهج العلمي، جعلته يُوصف بأنه "ثائر" في مجاله وجرئًا في فكره. ولقبه ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء، بجالينيوس العرب حيث شبّه الرازي بجالينوس في غزارة التأليف ودقة الملاحظة الطبية. كما تبنى المستشرقون الأوروبيون في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هذا اللقب في دراساتهم عن تاريخ الطب الإسلامي، لكون الرازي عندهم وريثًا مطورًا للمدرسة الطبية الإغريقية، بل وتجاوز جالينوس في بعض نقده وتصحيحه لآرائه. فلقد تجاوز الرازي الكتب الإغريقية، إذ رفض بعض تعاليم جالينوس في الطب، ووضع نظريات طبية قائمة على الملاحظة السريرية. فالطبيب والفيلسوف أبو بكر محمد بن زكريا الرازي لم يتردد في نقد بعض أطروحات جالينوس، الطبيب الإغريقي الشهير الذي هيمنت آراؤه على الطب لقرون. فعلى الرغم من تأثر الرازي بالمنهج العلمي لجالينوس في التشريح والملاحظة، إلا أنه خالفه في عدد من القضايا، خاصة نظرية “الأخلاط الأربعة” التي اعتبرها جالينوس أساس فهم الصحة والمرض. وفي كتابه "الشكوك على جالينوس"، عرض الرازي ملاحظاته الطبية التي لم تتوافق مع ما قرأه في كتب جالينوس، مستندًا إلى خبرته السريرية وتشخيصاته الدقيقة للمرضى. وقدّم عدة أمثلة واضحة على اعتراضاته، وسجّل فيها ملاحظات اعتمدت على التجربة الطبية والملاحظة المباشرة، ومنها أنه في الحميات ( الحمى)، خالف الرازي جالينوس في تفسيره لأسباب الحمى، إذ رأى أن بعض أنواعها لا يمكن ردّها دائمًا إلى اختلاط الأخلاط الأربعة، وإنما قد تنشأ من علل موضعية أو تأثيرات بيئية. وفي الأورام أكد الرازي أن بعضها لا تتبع القواعد التي ذكرها جالينوس في نموها أو تراجعها، ورأى أن تفسيرات جالينوس غير كافية لتغطية جميع الحالات السريرية، وفي أمراض الكلية والمثانة ذكر الرازي أن جالينوس أخطأ في بعض أوصافه لتكوّن الحصى وأعراضها، وأكد أن ملاحظاته من معالجة المرضى أظهرت صورًا مختلفة عمّا ذكره جالينوس. كما أن الرازي عارض جالينوس في بعض آرائه حول تأثير أصناف محددة من الطعام على الصحة، مشيرًا إلى أن التجربة أثبتت آثارًا مخالفة لما ورد في كتب جالينوس. تعمدت التوقف مليا هنا مع هذه الأمثلة التي تعكس الروح التي كانت تحرك العالم والفيلسوف والطبيب الرازي في بحثه عن الحقيقة. فهو لم يقم بتقليد من سبقه، بل وضعه تحت مجهر الاختبار بما يراه من طرق ممكنة ومتوفرة حينها. فمارس نقدًا علميًا مبنيًا على الملاحظة والتجربة، وحرص على تحكيم التجربة والمشاهدة بدلاً من التسليم المطلق بالسلطة العلمية الموروثة، وهو ما جعل إسهاماته تؤثر في مسار الطب الإسلامي والأوروبي لاحقًا وهو ما أعطى لكتاب "الشكوك على جالينوس" مكانته الفريدة في تاريخ الطب. ورغم هجوم الشهرستاني وآخرين من العلماء والفلاسفة عليه، ظلَّت أفكاره شاهدًا على عبقريةٍ طبيةٍ وفلسفيةٍ نادرة.
البتاني واستخدام جيوب التمام وحساب المثلثات وتدقيق الجداول الفلكية
ومن أعظم فلكيي ورياضيي العصر الذهبي، البتّاني (٩٢٩م)، أبو عبد الله محمد بن جابر بن سنان الحرّاني، والذي وُلد في حرّان وأجرى أرصاده في الرقة، وتميّز بدقة ملاحظاته التي صحح بها قياسات بطليموس مثل طول السنة الشمسية وميل فلك البروج. كان أول من استخدم الجيوب بدل الأوتار في حساب المثلثات، مما مهّد لعلم المثلثات الحديث، ووضع جداول فلكية دقيقة في كتابه "الزيج الصابي" الذي تُرجم إلى اللاتينية باسم De Scientia Stellarum واعتمد عليه علماء أوروبا مثل كوبرنيكوس. جمع في منهجه بين الرصد التجريبي والحساب الرياضي، مع رؤية فلسفية ترى الكون منظمًا وقابلًا للفهم في إطار التوحيد، وترك أثرًا عميقًا في الفلك والرياضيات امتد من المشرق إلى الأندلس وأوروبا. وأيضا ابن يونس المصري (١٠٠٩م) كان من أعظم فلكيي ورياضيي العصر الذهبي الإسلامي في مصر الفاطمية، وينحدر من أسرة علمية مرموقة. عُرف بدقة أرصاده الفلكية واستخدامه أدوات متطورة مثل الأسطرلاب الكبير، وألف “الزيج الحاكمي الكبير” الذي تضمن جداول فلكية دقيقة لمواقع الكواكب والشمس والقمر، وظل مرجعًا معتمدًا لقرون في المراصد الإسلامية والأوروبية. وأسهم في تطوير حساب المثلثات الكروية وتطبيقاته في الفلك لتحديد أوقات الصلاة والقبلة، وسجّل بدقة ظواهر كسوف الشمس وخسوف القمر، مما أفاد لاحقًا علماء الفلك في تحسين النماذج القمرية. ترك إرثًا علميًا أثر في المشرق والأندلس، وانتقل تأثيره إلى أوروبا عبر الترجمات اللاتينية.
أمير الأطباء (ابن سيناء)، وصاحب برهان الصديقين
أما أبو علي الحسين بن عبد الله ابن سينا، (١٠٧٣م) فيُعد من أعظم العلماء والفلاسفة في الحضارة الإسلامية، وأحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ الطب والفلسفة والعلوم، ووُصف في الغرب بـ "أمير الأطباء" (Prince of Physicians) بسبب إنجازاته الطبية التي استمرت مرجعًا لقرون. ويمكن ايجاز أبرز إنجازاته في الطب كتابه الأشهر "القانون في الطب" الذي كان موسوعة طبية جمعت المعارف الإغريقية والهندية والإسلامية، وأضاف إليها ملاحظاته السريرية الخاصة. وظل هذا الكتاب يُدرّس في الجامعات الأوروبية حتى القرن السابع عشر، وطُبع عشرات المرات في العصور الوسطى. وفيه أدخل منهج الملاحظة الإكلينيكية الدقيقة لتشخيص الأمراض، مثل وصفه لأعراض التهاب السحايا، والسكري، واليرقان. واهتم بالجانب الوقائي، فتكلم عن تأثير المناخ والتغذية والنظافة على الصحة. ويمكن ايجاز أبرز إنجازاته في الفلسفة والمنطق في كتبه مثل الشفاء والنجاة، فلقد طور نظريات في المنطق والميتافيزيقا اعتمد عليها الفلاسفة في الشرق والغرب، ومن بينهم توما الأكويني (١٢٧٤م) وهوالفيلسوف واللاهوتي المسيحي الإيطالي الذي يُعتبر من أعظم المفكرين في الفلسفة واللاهوت في العصور الوسطى، وله تأثير عميق على الفكر الغربي المسيحي حتى اليوم. اشتهر بمحاولته التوفيق بين الإيمان والعقل، حيث دمج الفلسفة الأرسطية مع العقيدة المسيحية بأسلوب منهجي ومنطقي، مما جعله مؤسس المدرسة التوماسية التي تُعنى بالفلسفة المدرسية. وهي تيار فلسفي ولاهوتي مسيحي تأسس على فكر الفيلسوف واللاهوتي الإيطالي توما الأكويني وتميز بمحاولة التوفيق بين الإيمان المسيحي والفلسفة العقلانية، خاصة الفلسفة الأرسطية. وركزت هذه المدرسة على إثبات العقائد الدينية بالحجج العقلية، وتطوير منهج استدلالي صارم يقوم على التحليل المنطقي والمناقشة الجدلية. واعتمدت التوماسيّة على أن العقل والوحي مصدران متكاملان للمعرفة، وأثرت بعمق في التعليم الكنسي والجامعات الأوروبية في القرون الوسطى، ولا تزال مؤثرة في الفكر الكاثوليكي حتى اليوم، خاصة بعد أن أعادتها الكنيسة للواجهة في القرن التاسع عشر عبر ما عُرف بـ"التوماسيّة الجديدة". مكانة توما الأكويني الكبيرة تأتي من كونه أحد أبرز دعاة العقلانية الدينية، وساعد في ترسيخ فكرة أن العقل يمكن أن يدعم الإيمان بدلاً من أن يتعارض معه، كما وضع أسس اللاهوت الطبيعي التي حاول من خلالها تفسير وجود الله وصفاته من خلال التأمل العقلي والمنطقي. ومن بين أهم إنجازاته كتابه الضخم "الخلاصة اللاهوتية" (Summa Theologica) الذي يُعتبر موسوعة في الفلسفة واللاهوت، حيث عرض فيه مجموعة متكاملة من الأفكار عن الله، الأخلاق، الإنسان، والقانون الطبيعي. وكتب أيضًا "الخلاصة ضد المنحرفين" (Summa Contra Gentiles) الذي كان موجهاً للدفاع عن العقيدة المسيحية أمام غير المسيحيين. وكانت أفكاره مؤثرة للغاية في تطور الفلسفة المسيحية الغربية، ولا تزال تُدرس حتى اليوم في المؤسسات الأكاديمية الدينية والفلسفية، وتُعتبر من أهم المراجع في الفلسفة الأخلاقية والدينية. نظريات ابن سيناء في المنطق والميتافيزيقا التي اعتمد عليها الفلاسفة في الشرق والغرب، ومن بينهم توما الأكويني، لم تكن ارثه العلمي والفكري والثقافي الأهم، بل كان له الكثير من العطاء الفكري والعلمي في المجالات المختلفة. فطرح ابن سيناء برهانه الشهير "برهان الصديقين" لإثبات وجود الله عبر الوجود ذاته لا عبر المخلوقات. وبرهان الصدّيقين هو أحد أشهر البراهين الفلسفية على وجود الله، ويُعد من أرقى ما صاغه فلاسفة الإسلام، وخصوصًا ابن سينا، في إثبات الواجب الوجود. وسُمّي بهذا الاسم لأن من يسلكه ــ أي "الصدّيق" ــ يصل إلى اليقين بالله مباشرة من خلال النظر في حقيقة الوجود نفسه، دون الحاجة للانطلاق من العالم المادي أو الظواهر الطبيعية كما في باقي البراهين. وتقوم فكرة البرهان على التمييز بين نوعين من الموجودات، موجودات ممكنة الوجود وموجودات واجبة الوجود. الموجود الممكن الوجود هو ما يمكن أن يوجد أو لا يوجد، ووجوده يحتاج إلى سبب يوجده. فإذا تتبعنا سلسلة الأسباب للممكنات، لا يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية، وإلا لما وُجد شيء في الأصل، فلا بد أن تنتهي السلسلة إلى موجود لا يحتاج لسبب، بل هو سبب نفسه وسبب كل ما سواه، وهذا هو "واجب الوجود" الذي يعتبر وجوده ضروري ولا يتوقف على غيره، وهو الله. وتتمثل أهمية برهان الصدّيقين في أنه لا يعتمد على الملاحظة الحسية أو على قوانين الطبيعة، بل على مبدأ عقلي خالص يستند إلى تحليل طبيعة الوجود نفسه. ولهذا تناول بعض المفكرين، وفي مقدمتهم صدر الدين الشيرازي (المعروف بالملا صدرا) ١٥٧٢-١٦٤٠ م، تناول برهان الصدّيقين بتفصيل في كتابه الأشهر "الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة". حيث رأى الملا صدرا أن أفضل البراهين على وجود الله هو برهان الصدّيقين، لكنه أعاد صياغته على نحو أعمق، ووصفه في كتابه الأسفار بأنه أقرب البراهين مسلكًا، وأرفعها شأنًا، وأصفاها عن شوائب الشكوك". وفي الرياضيات والفلك، ساهم ابن سيناء في شرح حركة الكواكب وتفسير الظواهر الفلكية، وناقش نموذج بطليموس، وقدم ملاحظات حول إمكانية تعديل النماذج الكونية. وكانت له مساهماته في تطوير المنهج العلمي تجلى في سعيه للجمع بين العقل النظري والمشاهدة العملية، فقد كان يختبر العقاقير ويقارن النتائج قبل تعميمها، ويشدد على أهمية الملاحظة الدقيقة وتكرارها، كما دعا إلى عزل العوامل المؤثرة لتحديد الأسباب الحقيقية للظواهر الطبية. ورغم أن منهجه لم يكن تجريبيًا صارمًا كما عند ابن الهيثم، فإنه أسس لروح علمية تميل إلى التحقق والتمحيص بدل الاكتفاء بالتقليد، مما جعل عمله جسراً بين الطب الفلسفي القديم والممارسات الطبية القائمة على المشاهدة والتحليل.
ابن الهيثم عالم البصريات والممهد للمنهج العلمي الحديث
وبرز الحسن بن الهيثم (١٠٤٠م) في البصريات، فابتكر المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والفرضية والتجربة، وكتب كتاب المناظر الذي أسس لعلم الضوء الحديث، حيث نقد نظرية بطليموس البصرية اليونانية، ورفض فكرة أن البصر ينبعث من العين نحو الأجسام، وأثبت بالعقل والتجربة أن الضوء ينعكس من الأجسام إلى العين، مطورًا بذلك الأساس البصري الحديث. وتأثر به لاحقًا رواد النهضة الأوروبية مثل كبلر. لم تكن هذه الإنجازات معزولة، بل جاءت نتيجة مناخ علمي وثقافي شجع النقاش، وجمع بين الدين والفلسفة، وبين النقل والعقل، وبين تراث الأمم السابقة والاجتهاد الإسلامي الأصيل. ورافق هذا التقدم العلمي حركة ضخمة في تأسيس المدارس والمراصد والمستشفيات ودور الحكمة، مثل مرصد بغداد ومستشفى الرقة ومكتبة دار الحكمة، حيث التقت العقول وتبادل الباحثون الآراء والنتائج بحرية نسبية. وامتدت هذه النهضة إلى الأندلس، حيث ظهر فلاسفة مثل ابن رشد، وعلماء مثل الزهراوي في الجراحة وابن باجة وابن الطفيل، وأسهموا في نقل هذا التراث إلى أوروبا عبر صقلية وقرطبة وطليطلة. هذا التحول لم يكن عشوائيًا، بل نتج عن عقلية نقدية نشأت في بيئة علمية تحفّز على الملاحظة والتجريب، وعُرفت بـ"الروح العلمية الإسلامية"، التي أسست لمدرسة علمية لا تُقلد، بل تطور وتبدع، مما أعطى الحضارة الإسلامية صفة الريادة في تلك القرون. وأسس منهجًا تجريبيًا دقيقًا سبق بكثير ما وصل إليه الأوروبيون في القرن السادس عشر، وحدد محيط الأرض بتقنية مذهلة قريبة جدًا من القيم الحقيقية.
(ابا الجراحة الحديثة)، ابو القاسم الزهراوي
ومن أعظم جراحي العصور الوسطى في العالم الإسلامي وأوروبا، حتى أن الغربيين يعرفونه باسم Abulcasis، ويعتبره كثيرون "أبا الجراحة الحديثة".، أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (١٠١٣م) ، وهو طبيب وجراح أندلسي. كان اهتمام الزهراوي الأساسي هو الطب والجراحة، لكنه لم يقتصر على ذلك، فقد برع أيضًا في الصيدلة وإعداد العقاقير الطبية، كما اهتم بتوثيق خبراته الطبية والتعليمية بدقة. أعظم إنجازاته تتجلى في كتابه الشهير "التصريف لمن عجز عن التأليف"، وهو موسوعة طبية ضخمة في ثلاثين جزءًا، جمع فيها معارف الطب في زمانه وأضاف خبراته العملية، وخصّص الجزء الأخير منها للجراحة، فكان أول عمل متكامل في هذا الفن، ويحتوي على رسومات دقيقة للأدوات الجراحية التي اخترعها أو طوّرها. وأبدع الزهراوي في ابتكار وتصميم أدوات جراحية جديدة، بعضها ما زال المبدأ نفسه مستخدمًا في الطب الحديث، مثل أدوات الكي، والمشارط، والملاقط الخاصة، وأدوات استخراج الحصى من المثانة، وأدوات خياطة الجروح الداخلية. كما أدخل تقنيات مبتكرة في الجراحة التجميلية، وعلاج الكسور، وإيقاف النزيف، وكان له تأثير واسع على الطب الأوروبي لقرون، إذ تُرجم كتابه إلى اللاتينية في العصور الوسطى وأصبح مرجعًا أساسيًا في كليات الطب الأوروبية.
البيروني الموسوعي وحساب دقيق لمحيط الأرض،
وكان أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (١٠٥٠م) من العلماء الفاعلين خلال الحضارة الإسلامية، وأحد أعظم العلماء وأكثرها شمولا في المعرفة الذي امتد نشاطه إلى الهند وبلاد فارس، جامعًا بين الفلك والرياضيات، والجغرافيا والفيزياء والفلسفة. في الفلك، ابتكر طرقًا لحساب محيط الأرض وقطرها بدقة مذهلة، وحدد خطوط الطول والعرض ورصد الكسوف والخسوف، وفي الجغرافيا وضع خرائط دقيقة ودرس تضاريس الأرض، وفي الرياضيات طوّر مفاهيم المثلثات الكروية. تميز ببحثه المقارن بين الثقافات، خاصة في كتابه "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة" الذي قدّم فيه دراسة منهجية للأديان والفلسفات الهندية بروح نقدية. من أبرز مؤلفاته أيضًا "القانون المسعودي" في الفلك والآثار الباقية عن القرون الخالية في التاريخ والكرونولوجيا، والصيدنة في الصيدلة. فلسفيًا، كان يؤمن بأن الكون تحكمه قوانين قابلة للفهم بالعقل والتجربة، ورفض التعصب الفكري، مما جعله نموذجًا للعالم الموسوعي الذي جمع بين دقة الرصد وسعة الأفق الفكري.
الاشبيلي (وارث الطب من جده وابيه) ووصفه التهاب التامور وتجاربه الرائدة لشق القصبة
واشتهر من العلماء، أبو مروان عبد الملك بن زهر الإشبيلي (١١٦٢م) بمهارته في الطب السريري والتجريبي، التي ورثها عن أبيه وعن جده. وكان يصف الأمراض وأعراضها بدقة، ويعتمد على الملاحظة المباشرة والتجربة لاختيار العلاج المناسب. ومن أبرز إسهاماته أنه أول من وصف التهاب التامور (غشاء القلب) وصفًا سريريًا، وهو أول من أجرى عملية شق القصبة الهوائية (Tracheotomy) على حيوانات التجربة ليثبت إمكانية إجرائها على الإنسان، وألف عدة كتب مهمة، منها التيسير في المداواة والتدبير الذي عُد مرجعًا في الطب لقرون في العالم الإسلامي وأوروبا. كما كان من أوائل من شددوا على التجربة كوسيلة أساسية لإثبات فعالية العلاجات، وهي فكرة تقترب كثيرًا من أسس المنهج العلمي الحديث في الطب.
ابن رشد الفيلسوف الطبيب واكماله كتاب الزهراوي ونقده لنماذج بطليموس
ومن أبرز أعلام الفلسفة في الحضارة الإسلامية ومن الشخصيات التي كان لها أثر بالغ في الفكر الأوروبي خلال العصور الوسطى الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد (١١٩٨م) ، وهو فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضي أندلسي، وآثاره واضحة فيما يُعرف بالمدرسة الرشدية اللاتينية التي تبنت شروحاته لأرسطو. اهتم ابن رشد بالفلسفة والمنطق والطب والفلك والفقه وأصول الشريعة، وكان جامعًا بين العقل الفلسفي والالتزام الديني. في الفلسفة، برع في شرح مؤلفات أرسطو بدقة وعمق، حتى لُقّب بـ"الشارح الأكبر". حاول التوفيق بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (الدين) في كتابه الشهير "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، حيث أكّد عدم وجود تعارض بين العقل والنقل إذا فُهم الدين على حقيقته واستُخدم العقل في تفسيره. وفي الطب، ألّف كتاب "الكليات" الذي تناول المبادئ العامة للطب، وكان يُكمّل كتاب "التصريف" للزهراوي من حيث التوجه نحو الجانب النظري للطب. كما ساهم في الفلك عبر ملاحظاته النقدية لنماذج بطليموس، وفي الفقه المالكي ترك مؤلفات تعكس عمق اجتهاده. أما إبداعه الأكبر فكان في المنهج العقلي النقدي مستفي اتبعه، إذ رسّخ فكرة إخضاع النصوص والمعارف للفحص العقلي المنظم، مما جعله جسرًا أساسياً لانتقال الفلسفة الأرسطية إلى أوروبا وتأثيرها على فلاسفة النهضة مثل توما الأكويني.
لاتمتة
الجزري (ليوناردوا دافنشي المسلمين)، ومبتكر الاتمتة و"الروبوتات"
وتنوعت الابداعات والمجالات، فهذا بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري (١٢٠٦م) الذي كان أحد أعظم المهندسين الميكانيكيين في التاريخ الإسلامي والعالمي، الذي واصل مسار اهتمام بنو موسى في تطوير الأدوات ذاتية التشغيل، فأهتم بالحيل والتشغيل الذاتي ( الاوتوماتيك) ويُلقب أحيانًا بـ"ليوناردو دافنشي العالم الإسلامي" نظرًا لبراعته في تصميم آلات مبتكرة تجمع بين الدقة الهندسية والجمال الفني. عمل رئيسًا للمهندسين في بلاط الأرتقيين، حيث كلفه الحكام بتصميم وصناعة آلات تخدم القصور والمرافق العامة. والأرتقييون أو بنو أرتق كانوا سلالة تركمانية من أصل قبائلي، أسسها الأمير أرتق بن أكسب، أحد قادة السلاجقة في القرن الحادي عشر الميلادي. بعد وفاة أرتق سنة 1102م، تولى أبناؤه الحكم في مناطق من الجزيرة الفراتية والشام، وخاصة ماردين وديار بكر وحسن كيف، وأقاموا إمارات شبه مستقلة تحت سيادة اسمية للسلاجقة أو الزنكيين أو الأيوبيين حسب المرحلة السياسية. فعمل الجزري رئيسا للمهندسين في بلاطهم. ومن أشهر أعمال الجزري كتابه "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، الذي يُعد موسوعة ميكانيكية عملية، ويضم أكثر من خمسين آلة موصوفة بالرسوم الملونة والتفاصيل الفنية. تضمنت هذه الآلات ساعات مائية مدهشة، وآلات رفع مياه تعمل بالسواقي والسلاسل، وأجهزة تحكم ذاتي (أوتوماتونات) مثل الطيور المغردة، والدمى المتحركة، وأباريق الوضوء الآلية، ومعضها تحاكي روبوتات كانت تعمل في القرن الحادي عشر قبل معرفة الروبوت الحديث بقرون. اعتمد الجزري على مبادئ الهندسة الميكانيكية والهيدروليك، واستفاد من أعمال بنو موسى وأدخل ابتكارات جديدة في أنظمة التروس والصمامات، مما جعل إسهاماته أساسًا لتطور الآلات في الحضارة الإسلامية وانتقال هذه المعرفة إلى أوروبا في عصر النهضة. لابد من التأكيد على أن أثر الجزري لم يقتصر على الجانب العملي، بل وضع منهجًا تطبيقيًا للهندسة الميكانيكية يجمع بين النظرية والتجربة، مبرزًا أهمية التوثيق الدقيق للرسم الهندسي والخطوات التنفيذية، وهو ما جعل كتابه مرجعًا حيًا حتى العصر الحديث.
ابن النفيس واكتشاف دورة الدم الصغرى وجمعه التفكير العقلي والملاحظة التجريبية
وفي الطب مرة أخرى، يعتبر ابن النفيس (١٢٨٨م)، علاء الدين علي بن أبي الحزم القرشي الدمشقي، من كبار أطباء وفلاسفة العصر المملوكي، واشتهر باكتشافه الدورة الدموية الصغرى موضحًا أن الدم ينتقل من البطين الأيمن إلى البطين الأيسر عبر الرئتين، مخالفًا آراء جالينوس، وقد سجّل هذا الاكتشاف في كتابه شرح تشريح القانون، ألّف أيضًا الموجز في الطب الذي اختُصر فيه علم الطب على نحو منهجي، والشامل في الصناعة الطبية الذي يعد موسوعة طبية ضخمة لم يكتمل. فلسفيًا، تناول ابن النفيس قضايا النفس والوجود والمعرفة في مؤلفات مثل "الرسالة الكاملة في السيرة النبوية" وكتب في المنطق والفقه، جامعًا بين التفكير العقلي والملاحظة التجريبية وترك إرثًا علميًا أثر في الطب الإسلامي والأوروبي، ويمثل مثالًا للعالم الموسوعي الذي جمع بين الدقة العلمية والرؤية الفلسفية المتسعة.
مدن لها حضور في العصر الذهبي
هذه الأسماء اللامعة والتي انتجت الكثير من العلوم في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، كان لها فضاء جغرافي برزت فيه عدة مدن كبرى ( بغداد ، قرطبة والري ونيسابور ودمشق والبصرة والقاهرة وسمرقند وبخاري وغيرها - موضح في الشكل التالي) شكلت مراكز إشعاع علمي وفكري وثقافي، تجمع بين دورها السياسي والاقتصادي ودورها في إنتاج المعرفة وتداولها. فمدرسة جنديسابور القديمة، والتي استمرت حتى القرن التاسع الميلادي، كانت رائدة في تدريس الطب اليوناني والسرياني والفارسي والهندي معًا، وأسهمت في تدريب الأطباء الذين عملوا لاحقاً في قصور الخلفاء العباسيين. وكانت بغداد في قلب هذا الحراك منذ تأسيسها على يد الخليفة العباسي المنصور، فغدت مركزًا جامعًا للعلوم بفضل "بيت الحكمة" الذي جمع المترجمين والفلكيين والأطباء والفلاسفة، وشهدت نشاطًا في التأليف والابتكار في مجالات الطب، والفلك والرياضيات والفلسفة. وتميزت بغداد بانفتاحها على التراث اليوناني والفارسي والهندي، واستقطابها للعلماء من مختلف الأقاليم، مما جعلها حاضرة الفكر الأول في العالم الإسلامي لقرون. أما قرطبة في الأندلس، فقد تحولت في عهد الأمويين بالأندلس إلى عاصمة للعلم في الغرب الإسلامي، تضم مكتبات ضخمة وجامعات ومساجد جامعة مثل جامع قرطبة، وتخرج منها أطباء وفلاسفة وشعراء، وأسهمت في نقل المعارف العربية إلى أوروبا عبر الترجمة والتواصل الحضاري. كانت قرطبة مثالاً على الاندماج بين العمارة المبهرة والنشاط الثقافي المزدهر، وكانت صلة وصل بين العلوم المشرقية والغرب اللاتيني. إلى جانب هاتين الحاضرتين، ازدهرت مراكز أخرى مثل دمشق التي ورثت تقاليد علمية من العصر الأموي وظلت نشطة في الطب والفلك، والقاهرة التي أصبحت في العصر الفاطمي مقرًا لدار الحكمة وموطنًا لعلماء الفقه واللغة والطب، والبصرة والكوفة اللتان تميزتا في النحو واللغة والحديث والكلام، والري ونيسابور في خراسان اللتين كانتا معاقل للفكر الفلسفي والكلامي، إضافة إلى سمرقند وبخاري اللتين لمع فيهما علماء الرياضيات والفلك. كان هذا النشاط العلمي متنوعًا في مؤسساته بين دور الحكمة، والمدارس، والمكتبات، والمراصد الفلكية، والمستشفيات التعليمية، وامتد جغرافيًا من حدود الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا. وتعاقب على هذه المدن رجالات كبار أمثال الخوارزمي، ابن سينا، الفارابي، الزهراوي، ابن رشد، الخيام، ولكل منهم بصمته الخاصة التي أثرت في مجاله وأثرت تواصل المعرفة بين أقاليم العالم الإسلامي وخارجها.

المدن في البلدان الإسلامية التي شهدت حراكا علميا في العصر الذهبي
المستشفيات التعليمية، والمراصد المتوزعة في العالم الاسلامي، والاكاديميات العلمية
إضافة لكل ذلك، فإن عدداً من المؤسسات الأخرى لعبت أدواراً حاسمة في تطوير العلم الإسلامي، في العصر الذهبي، خصوصًا في المشرق الإسلامي. ومن أبرز هذه المؤسسات مرصد مراغة في أذربيجان الذي أسسه العالم نصير الدين الطوسي (١٢٧٤م) بتشجيع من الإلخانيين (إحدى السلالات المغولية التي حكمت أجزاء واسعة من إيران والعراق والأناضول وأجزاء من الشام وآسيا الوسطى في القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي ، وكانوا فرعًا من الإمبراطورية المغولية الكبرى التي أسسها جنكيز خان، وتحديدًا من نسل حفيده هولاكو خان، مؤسس الدولة الإلخانية بعد حملته على العالم الإسلامي.) بعد سقوط بغداد، وقد ضم مرصد مراغة مكتبة ضخمة، وأنتج نماذج فلكية جديدة تجاوزت النماذج البطلمية، مثل "مزدوجة الطوسي" التي أثرت لاحقاً على نموذج كوبرنيكوس في القرن السادس عشر. كما أن مدرسة جنديسابور القديمة، والتي استمرت حتى القرن التاسع الميلادي، كانت رائدة في تدريس الطب اليوناني والسرياني والفارسي والهندي معًا، وأسهمت في تدريب الأطباء الذين عملوا لاحقاً في قصور الخلفاء العباسيين. وفي الري ونيسابور وسمرقند، نشأت مدارس ومراصد علمية أسهمت في إنتاج جداول فلكية دقيقة، وابتكار أدوات الرصد، وتخريج علماء مثل البيروني ، والخيام. أما في القيروان وفاس، فقد برزت جامعات مثل الزيتونة والقرويين، التي كانت تدرّس العلوم العقلية والطبيعية إلى جانب الفقه. كذلك ازدهرت العلوم في دمشق وحلب خلال العصور الأيوبية والمملوكية، وتضمنت المستشفيات فيها غرفاً لتعليم الطب، مثل البيمارستان النوري. هذه الشبكة الواسعة من المؤسسات العلمية تشير إلى أن العلم الإسلامي لم يكن محصورًا في حواضر بعينها، بل كان امتدادًا لحراك حضاري شامل وعابر للحدود، ساهم في صياغة عالم معرفي متعدد المراكز. وتجلت روح العلم الإسلامي ليس فقط في أعمال الأفراد، بل أيضًا في نشوء مؤسسات علمية رائدة نظّمت المعرفة واحتضنت العلماء من مختلف الثقافات والديانات، فكان "بيت الحكمة" في بغداد في القرن التاسع الميلادي أحد أبرز تلك النماذج، إذ جمع تحت سقفه مترجمين، علماء فلك، أطباء، فلاسفة، ورياضيين، وكان بمثابة أكاديمية عالمية سابقة لعصرها، أدارها أعلام مثل يحيى بن ماسويه، والفضل بن نوبخت، وحنين بن إسحاق. هناك تأسست أولى المكتبات العامة، ومعامل نسخ الكتب، وتطوير أدوات الرصد الفلكي، ومن هناك انطلقت حركة الترجمة والتأليف المشترك. كما ظهرت المراصد الفلكية الكبرى مثل مرصد بغداد، ومرصد المراغة في أذربيجان الذي أسسه نصير الدين الطوسي كما تم الإشارة اليه اعلاه. أما في مجال الطب، فقد أُسّست المستشفيات التعليمية (البيمارستانات) التي جمعت بين الخدمة العلاجية والتعليم الطبي المجاني، ومن أبرزها بيمارستان الرقة في عهد هارون الرشيد، وبيمارستان نوري بدمشق، وبيمارستان القاهرة الفاطمي، وكلها كانت تحتوي مكتبات، وقاعات تدريس، وصيدليات، وسجلات مرضى، وهي نواة ما يعرف اليوم بالمستشفيات الجامعية. كما أُنشئت مدارس النظامية، والمكتبات الوقفية العامة، ومدارس علوم الفلك والرياضيات، وكلها جسّدت قناعة الدولة والمجتمع بأن العلم ليس ترفًا، بل ضرورة حضارية، وأن النهضة لا تقوم إلا بالمعرفة الممنهجة والمؤسسية. لقد عبّرت هذه المؤسسات عن فلسفة واضحة ترى في التنوع والتجريب والترجمة والاجتهاد العلمي وسائل للوصول إلى الحقيقة، ومثّلت بهذا أساسًا متينًا لحضارة ساهمت في نقل العالم من العصور القديمة إلى العصر العلمي الحديث.
أوروبا تمر بالعصور المظلمة
وفي المقابل، كانت أوروبا في الفترة الزمنية التي امتدت من القرن السابع إلى الحادي عشر الميلادي، تعاني من انحسار في المعرفة، وهيمنة للكنيسة على الفكر، وندرة في الترجمة والبحث العلمي، وهو ما دفع المؤرخين إلى وصف هذه المرحلة بـ"العصور المظلمة". لم تبدأ النهضة في أوروبا إلا بعد أن بدأت تترجم كتب المسلمين في الطب والفلسفة والرياضيات، وخاصة في القرن الثاني عشر الميلادي، فظهر تأثير ابن سيناء في مدارس الطب، وكان لابن رشد أثره الكبير على توما الأكويني الفيلسوف واللاهوتي الكاثوليكي في القرن الثالث عشر، وهو من سعى إلى التوفيق بين العقل والإيمان، فدمج بين الفلسفة الأرسطية والعقيدة المسيحية في مؤلفه الأشهر الخلاصة اللاهوتية. وتأثر في كل ذلك بابن رشد وابن سينا، وأسس ما يعرف باللاهوت الطبيعي، وكان لفكره أثر دائم في الفكر الغربي والكنيسة الكاثوليكية. وتعلّم الأوروبيون الجبر والفلك من كتب العرب. وقد اعترف مؤرخو العلم، مثل جورج سارتون مؤرخ العلم البلجيكي الأمريكي في القرن العشرين، والذي يُعد مؤسس علم تاريخ العلوم الحديث، وأبرز في موسوعته مقدمة لتاريخ العلوم الدور الكبير للحضارة الإسلامية في تطور العلوم، واعتبر المسلمين أساتذة العالم لقرون، فصحح الرؤية الأوروبية المتحيزة تجاه التاريخ العلمي. ودافع المستشرق الإنجليزي إدوارد براون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والمتخصص في الأدب الفارسي والتاريخ الإيراني، وصاحب المؤلف المرجعي بعنوان تاريخ الأدب الفارسي ، عن ثقافة الشرق وأبرز التيارات الفكرية الشيعية والبهائية، كما كان متعاطفًا مع حركات الإصلاح في إيران. اما المستشرقة والمفكرة الألمانية في القرن العشرين، زيغريد هونكه، فقد دافعت في كتابها شمس الله تشرق على الغرب عن إسهامات الحضارة الإسلامية في نشوء النهضة الأوروبية، وكشفت التعتيم الغربي على أثر العرب في الطب والفلسفة والعلوم. وأشادوا بالدور المحوري الذي لعبه العلماء المسلمون في حفظ وتطوير العلوم، ونقلها إلى أوروبا، فكانوا جسرًا حضاريًا ساهم في انطلاق أوروبا الحديثة.
تعليقات
إرسال تعليق