في تحصيل العلم: هل أَخَذَنَا "تَأليه" المنهج العلمي للمحظور!؟ - III


نظرة سريعة على ما انتجته الحضارات القديمة -٣


"هذه سلسلة مقالات تبدأ باستعراض الإنجازات العلمية والفكرية والفلسفية للحضارات القديمة، وصولا الى ما قبل النهضة في أوروبا. ثم نستعرض إنجازات المسلمين وبعدها نتحدث عن إنجازات أوروبا عصر النهضة وكيف تم تكريس المنهج العلمي منذ بدايات ابن الهيثم في كتابه المناظر ،عندما تحدث عن المنهج التجريبي وطبقه، وتثبيت فرانسيس بيكون له في كتابه الآلة الجديدة  في العالم الغربي كمنهج لتحصيل العلوم، وطرح رينيه ديكارت الأساسية في كتابه مقال في المنهج ، الذي يتمحور حول تطوير منهج عقلاني جديد للوصول إلى الحقيقة اليقينية في العلوم والفلسفة، مع رفض المناهج التقليدية المبنية على السلطة أو التقاليد، وصولا لاطروحات فيلسوف العلم النمساوي بول فايراباند المعاصر، في كتابه ضد المنهج، الذي رفع فيه شعار "كل شئ يمشي أو ممكن" في تحصيل العلم ، ونفصل في أطروحاته ، وفي مواقف المؤيدين والمعارضين له ومن ثم نصل لخلاصات في نهاية الحديث في آخر السلسلة"

كان الحديث في ١، و ٢ عن منجزات حضارات بلاد الرافدين والهند والصين وبلاد فارس ونكمل هنا لنتناول المنجزات العلمية والفلسفية والحضارية  للإغريق والرومان وحضارات أمريكا الوسطى والجنوبية.


منجزات حضارات الاغريق والرومان

وفي مرافئ بحر إيجة وتحت ظلال المدينة العليا  "الأكروبول"، وُلدت حضارة الإغريق بوصفها منارة فكرية شكلت منعطفًا حاسمًا في التاريخ البشري. لم تكتفِ بإبداعها الفني والمعماري المدهش، بل أهدت العالم إرثًا فكريًا غزيرًا في الفلسفة والرياضيات، والمنطق والطب والفلك. كانت أثينا مسرحًا للنقاشات الفلسفية التي أرست أسس التفكير النقدي، على يد أفلاطون وأرسطو وسقراط، بينما أنجز أرخميدس وبطليموس وهيبوقراط قفزات علمية ما زالت مرجعية في مجالاتها. كما طوّر الإغريق نظم الحكم، وطرحوا مفاهيم الديمقراطية، ودوّنوا ملاحمهم وأفكارهم بلغة أدبية شفافة جمعت بين الشعر والعقل. لقد كانت حضارة الإغريق تجربة فريدة جمعت بين التأمل العقلي والإبداع العملي، وأسست لكثير من المفاهيم التي شكلت لاحقًا لبنات الحضارة الغربية والعالمي. والإغريق دخلوا مرحلة جديدة، إذ حاولوا فصل العقل عن الميثولوجيا. وظهر فلاسفة الطبيعة مثل طاليس، أناكسيماندر، أبقراط، سقراط، أفلاطون، وأرسطو. هؤلاء طرحوا نماذج لتفسير الكون تقوم على عناصر مادية أو عقلية مجردة بدلاً من الآلهة. أرسطو، مثلاً، أسس علماً في المنطق، وقدم رؤية شاملة للفيزياء والأحياء مبنية على المشاهدة والتصنيف. ومع ذلك، بقيت فلسفته حبيسة تصورات استنتاجية تعوق التجريب. كما أسهم الإغريق في وضع اللبنات الأولى للعلم المنهجي عبر مجموعة من العلماء والفلاسفة الذين سعوا لفهم الكون بعيدًا عن الخرافات والأساطير، فكان طاليس الملطي الفيلسوف والعالم اليوناني ويعد أول فلاسفة اليونان وأحد الحكماء السبعة في الفكر القديم، هو أول من حاول تفسير الطبيعة بقول إن الماء أصل كل الأشياء، مما شكل تحولًا من الفكر الميثولوجي إلى الطبيعي. تبعه فيثاغورس الذي أسس مدرسة ربطت بين الرياضيات والفلسفة، وأشاع فكرة أن الأعداد تحكم الكون، وهي فكرة أثّرت لاحقًا في الفكر الفلكي عند المسلمين والغربيين. أما أفلاطون، فقد جمع بين الفلسفة والمثل الرياضية، وشجّع على دراسة الهندسة باعتبارها طريقًا لفهم الحقيقة، وجعل من أكاديميته مركزًا للفكر. ثم جاء أرسطو، الذي يُعد من أعظم مفكري الإغريق، فوضع أسس المنطق والفيزياء ودرس الكائنات الحية بطريقة موسعة، مؤسسًا لعلم البيولوجيا المقارن، وقد تبنّى المسلمون كثيرًا من أفكاره في العصور اللاحقة. وفي مجال الرياضيات والهندسة، لمع اسم إقليدس الذي ألّف كتاب "العناصر" وهو أحد أكثر الكتب تأثيرًا في تاريخ الرياضيات، واستُخدم حتى العصر الحديث كأساس للتدريس. أما أرخميدس، فقد أبدع في الفيزياء والهندسة، واكتشف قانون الطفو وابتكر أدوات ميكانيكية متقدمة، ولا يزال اسمه رمزًا للعبقرية العلمية. وفي الفلك، برز هيبارخوس الذي أنشأ أول كتالوج نجمي، واستطاع بدقة حساب طول السنة والانقلابات، مما مهّد لاحقًا لبطليموس، الذي قدّم نموذجًا كونيًا صار المرجع الأساسي في الفلك حتى عصر كوبرنيكوس. هؤلاء العلماء لم ينفصلوا عن الحياة العامة، بل شكلوا مدارس فكرية أثّرت في السياسة والتعليم، وكانوا، كما تؤكد المخطوطات والكتابات المترجمة إلى السريانية والعربية واللاتينية، مصدر إلهام مباشر للنهضة العلمية في الحضارة الإسلامية ثم الأوروبية.


وفي قلب البحر الأبيض المتوسط، نهضت الحضارة الرومانية كجسر بين الفكر الإغريقي القديم وعالم الحداثة المتشكل، مجسدة توازنًا فريدًا بين القوة والتنظيم، وبين الهندسة والفكر القانوني. لم تكن روما مجرد إمبراطورية توسعية، بل كانت معملًا حضاريًا متكاملًا صاغ منظومات متقدمة في الإدارة، والقانون، والهندسة المعمارية، والبنية التحتية. فقد شيّد الرومان طرقًا وجسورًا وقنوات مائية ما زال بعضها قائمًا إلى اليوم، وابتكروا تقنيات البناء بالخرسانة والقباب. كما وضعوا اللبنات الأولى للقانون المدني الذي لا تزال أنظمته تؤثر في التشريعات الحديثة. وعلى الصعيد الثقافي، احتضنوا الأدب والفلسفة والخطابة، وطوّعوا المعرفة لصالح النظام والاستقرار. وهكذا كانت الحضارة الرومانية تجسيدًا لعبقرية التنظيم وعمق الرؤية، تاركة بصمتها العميقة في بنية العالم القديم والحديث. الرومان ورثوا المعرفة الإغريقية، لكنهم ركزوا على الجوانب العملية منها، فازدهرت الهندسة، والطب، والقانون. ومن أشهر أعلامهم الطبيب جالينوس وهو من مواليد بيرغامون (في تركيا الحديثة) حوالي سنة 129 ميلادية، وكان طبيبًا وفيلسوفًا يونانيًا خدم في بلاط الأباطرة الرومان، مثل ماركوس أوريليوس.   جمع بين العلم النظري والتجربة العملية، ووسّع فهم الطب الإغريقي ببحوثه في التشريح ووظائف الأعضاء. وعلى عكس أبقراط الذي تجنب تشريح الجثث، قام جالينوس بتشريح الحيوانات (خصوصًا القرود والخنازير)، فصاغ نظرية متقدمة في الدورة الدموية والعصبية ظلّت مرجعًا لقرون. ومن أبرز إسهاماته تحليله لتوازن الأخلاط الأربعة في الجسم (الدم، البلغم، الصفراء، والسوداء)، وهي نظرية كانت مركزية في الطب حتى عصر النهضة. ومن المهم التأكيد على حقيقة أنه لم يحدث تقدم جوهري في المفاهيم النظرية، بل كان الاهتمام الأكبر منصبا على تطبيق المعارف في البناء، والطرق، وتنظيم الدولة. ورغم أن الرومان لم يشتهروا بالإبداع في العلوم النظرية كما فعل الإغريق، إلا أنهم لعبوا دورًا حاسمًا في نقل المعرفة العلمية وتطبيقها على نطاق واسع في ميادين الحياة اليومية والعسكرية والمعمارية والطبية. وكان من أبرز رموزهم في العلوم بلينيوس الأكبر، الذي ألّف موسوعته الشهيرة "التاريخ الطبيعي" والتي جمعت معارف عصره في الجيولوجيا والحيوان والنبات والطب، وظلت مرجعًا أساسيًا حتى العصور الوسطى. وفي الطب، تألق جالينوس، الذي عاش في روما وكتب كثيرًا في التشريح والفسيولوجيا، وظلت تعاليمه مؤثرة في الطب الإسلامي والأوروبي لأكثر من ألف عام، حيث دمج بين تراث أبقراط والفحص السريري والتجريبي. وآبقراط هذا ولد في جزيرة كوس اليونانية حوالي سنة 460 قبل الميلاد، ويُعدّ "أبا الطب"، لأنه أول من فصل الطب عن الخرافات والدين، وركّز على الملاحظة والتشخيص العقلاني. فرفض الاعتقاد بأن الأمراض سببها غضب الآلهة، وأكد أن لها أسبابًا طبيعية تتعلق بالجسد والبيئة والنظام الغذائي. ومن أشهر إنجازاته ما يُعرف بـ "القَسَم الأبقراطي"، وهو ميثاق أخلاقي يُلزم الأطباء بأداء مهنتهم بأمانة، ويُعتبر أساسًا لأخلاقيات الطب حتى اليوم. وقد نُسبت إليه مجموعة ضخمة من المؤلفات، تُعرف باسم "مجموعة أبقراط" ، وهي تضم مقالات حول الأمراض، التشخيص، الحميات، والجراحة. أما في مجال الهندسة والعمارة، فقد برز فيتروفيوس، الذي خلّد في عمله "عن العمارة" المبادئ العلمية لبناء المدن والمعابد والآلات، وأثر بعمق في مفكري عصر النهضة مثل ليوناردو دافنشي. ولم يكن بطليموس أقل شأنًا، إذ كتب باليونانية في الإسكندرية الرومانية وأنتج أهم مؤلفات الفلك القديم في كتاب "المجسطى"، واضعًا نموذجًا للكون ظل مهيمنًا حتى كوبرنيكوس. كما كتب في الجغرافيا والبصريات، موضحًا مفهوم الانكسار والتضاريس بمناهج رياضية. حتى الفلاسفة مثل سينيكا الأصغر وهو الفيلسوف الروماني، والكاتب المسرحي، ورجل الدولة، الذي وُلد في مدينة قرطبة بإسبانيا حوالي سنة 4 قبل الميلاد، وتوفي سنة 65 ميلادية. يُعرف بلقب "الأصغر" لتمييزه عن والده "سينيكا الأكبر"، الذي كان خطيبًا وكاتبًا أيضًا. سينيكا الأصغر يُعد من أبرز ممثلي المدرسة الرواقية ومن ساهموا بتطويرها وهي واحدة من أهم المدارس الفلسفية في الفكر اليوناني والروماني، نشأت في أثينا على يد الفيلسوف زينون الكيتيومي حوالي سنة 300 ق.م، وسُمّيت "رواقية" نسبة إلى "الرواق المزيّن"وهو المكان الذي كان زينون يُلقي فيه تعاليمه  في روما، وقد كان معلمًا ومستشارًا للإمبراطور نيرون، لكن علاقته به انتهت بشكل مأساوي حين أُجبر على الانتحار بأمر من نيرون بتهمة التآمر.  ولم يغفل بطليموس عن الظواهر الطبيعية، فكتب عن الزلازل والبراكين في تأملات جمعت بين التأمل والرصد، مما يكشف عن عمق اهتمام روماني بالبيئة الطبيعية. ومن كل هذا، يتضح أن الرومان لم ينشئوا علومًا جديدة بقدر ما قاموا بتجميع وتوسيع ونقل المعارف الإغريقية والمشرقية، وأولوها جانبًا عمليًا فعالًا في الإدارة والطب والهندسة، ما جعلهم جسراً حيوياً نقل العلم القديم إلى العصور اللاحقة.


منجزات حضارات أمريكا الوسطى والجنوبية


في قلب الغابات الكثيفة والجبال الممتدة لأمريكا الوسطى والجنوبية، نشأت حضارات زاخرة بالعلم والابتكار، تركت بصمات حضارية عميقة تشهد عليها المعابد المهيبة، والأنظمة الفلكية المعقدة، والهندسة الدقيقة التي ما تزال تثير دهشة العالم الحديث. تعد حضارات المايا، الأزتك، والإنكا من أبرز الكيانات الحضارية التي ازدهرت في تلك الأنحاء بين القرنين العاشر قبل الميلاد والسادس عشر الميلادي، حيث بلغت هذه الشعوب درجة عالية من التقدم العلمي والديني والاجتماعي.

ازدهرت حضارة المايا في المكسيك، وغواتيمالا، وهندوراس، وبيليز، منذ حوالي 2000 ق.م، وبلغت أوجها في الفترة ما بين 250 إلى 900 ميلادية. تميز المايا بدقة ملاحظاتهم الفلكية، فوضعوا تقاويم فلكية شديدة التعقيد والدقة، مثل "التقويم الطويل"، الذي كان يعتمد على دورات فلكية، واستطاعوا التنبؤ بالخسوف والكسوف بدقة لافتة.  والتقويم الطويل في حضارة المايا هو نظام زمني فلكي ورياضي معقد استخدمه المايا لتأريخ الأحداث بدقة على مدى آلاف السنين، ويُعد أحد أكثر أنظمتهم الزمنية تطورًا، حيث لا يقتصر على الدورات الشمسية السنوية، بل يمتد إلى دورات كونية ضخمة.  فخلافًا للتقويم القصير (مثل التقويم الشمسي "هاب" Haab الذي يحصي السنة بـ365 يومًا مقسمة إلى 18 شهرًا، كل شهر يتكون من 20 يومًا، بالإضافة إلى 5 أيام نهائية تُدعى "واييب" (Wayeb') كانت تُعد أيامًا مشؤومة أو غير محمودة)، فإن التقويم الطويل يعمل على مبدأ العدّ التراكمي للأيام منذ ما يعتبرونه تاريخ الخلق الأسطوري. 

و كانوا أول من استخدم مفهوم الصفر في أمريكا، وطوروا نظامًا عدديًا عشريًا يعتمد على النقاط والخطوط، وهو ما مكنهم من إجراء عمليات حسابية متقدمة. كما أبدعوا في بناء المعابد الهرمية والمدن الحجرية كمدينة تيكال Tikal وبالينكي Palenque، التي تُظهر براعتهم الهندسية والمعمارية رغم صعوبة التضاريس.

ونشأت حضارة الأزتك في وسط المكسيك، خاصة في وادي المكسيك حيث أقاموا عاصمتهم تينوتشتيتلان  (Tenochtitlán الواقعة في مكان مدينة مكسيكو سيتي اليوم)، والتي كانت من أعظم مدن العالم عند وصول الإسبان عام 1519. اعتمد الأزتك نظامًا اجتماعيًا هرميًا دقيقًا، وكانت لهم أسواق ضخمة منظمة، ونظم ضرائب معقدة. طوروا الزراعة إلى مستوى متقدم عبر تقنيات مثل "الشنامباس" chinampas (الزراعة على جزر عائمة).ديانتهم كانت مركزية، تمحورت حول طقوس مرتبطة بالكون والآلهة، وكان الاعتقاد بتجدد الشمس والكون يتطلب تضحيات بشرية رمزية، ما جعل طقوسهم تبدو دموية في عين الغربيين. حافظوا على سجل معارفهم عبر المخطوطات التصويرية (codices)، كما برعوا في الطب الشعبي، والمعمار، والتنظيم السياسي، حيث أدارت الإمبراطورية الأزتكية أكثر من 500 مدينة وولاية.

امتدت إمبراطورية الإنكا من كولومبيا حتى تشيلي وبيرو، وكانت عاصمتهم كوسكو Cusco، بينما تظل ماتشو بيتشو Machu Picchu شاهدة على براعتهم المعمارية والهندسية في أعالي جبال الأنديز. فقد أنشأوا شبكة طرق تجاوزت 40,000 كيلومتر، تتخللها محطات واستراحات ونُظم بريدية تعتمد على العدّائين شاسكي( chasqu)، مما جعل إمبراطوريتهم من أكثر الكيانات ترابطًا إداريًا في عصرها. والعدّاؤون   المعروفون باسم "شاسكي" (Chasqui)  في حضارة الإنكا، هم عناصر أساسية في نظام الاتصال السريع عبر إمبراطوريتهم الواسعة الممتدة عبر جبال الأنديز. كانوا فتيانًا مدرّبين بدنيًا بشكل مكثف، يعملون في شبكة الطرق الإنكانية المعقدة التي تضمنت آلاف الكيلومترات من المسارات الجبلية، مستخدمين نظام التتابع لنقل الرسائل الشفهية أو العقدية (الكيبو) وأحيانًا يحملون سلعًا خفيفة أو هدايا ملكية. كانوا يركضون مسافات محددة بسرعات كبيرة، ثم يسلمون الرسالة لعدّاء آخر ينتظر في محطة مخصصة تُعرف باسم "تامبو"، مما سمح بنقل الأخبار والأوامر بسرعة مذهلة وصلت في بعض الأحيان إلى مئات الكيلومترات خلال يوم واحد. هذا النظام المذهل عكس التنظيم الفائق والدقة الإدارية التي اتسمت بها حضارة الإنكا، وساهم في تعزيز وحدة الدولة المركزية رغم التضاريس الوعرة.  وفنيا ومعماريا،  تميزت حضارتهم بتقنية "الترصيع الحجري الجاف" حيث كانت الأحجار تُقطع بدقة لتتناسب دون استخدام الملاط، وهي تقنية لا تزال تدهش المهندسين المعاصرين. والملاط هو مادة لاصقة تُستخدم في البناء لربط الحجارة أو الطوب ببعضها البعض، ويُصنع عادةً من خليط من الماء والرمل ومادة رابطة مثل الجير أو الإسمنت. في الحضارات القديمة، كان يُصنع الملاط من مكونات محلية مثل الرماد البركاني أو الطين أو الجير المحترق، بحسب المتوفر في البيئة. وظيفته الأساسية ليست فقط تثبيت الحجارة، بل أيضًا تعبئة الفراغات بينها، ومنع دخول المياه أو الهواء. ويُعد الملاط من العناصر المعمارية الأساسية التي ساهمت في بقاء العديد من الأبنية القديمة متماسكة حتى اليوم.


 كما أبدعوا في الزراعة الجبلية عبر المصاطب الزراعية، وفي تخزين المحاصيل في مخازن مبردة طبيعيًا (كولاكا)، المخازن المبردة طبيعيًا، المعروفة باسم كولاكا (Qollqa) أو Qollca)، وهي عبارة عن منشآت تخزينية ذكية طوّرها شعب الإنكا لتخزين المحاصيل الزراعية مثل الذرة والكينوا والبطاطا، بالإضافة إلى اللحوم المجففة وغيرها من المؤن. صُممت هذه المخازن على نحو معماري يسمح بالتهوية الطبيعية والتبريد عبر التحكم بدرجات الحرارة والرطوبة، مستفيدة من مواقعها المرتفعة في جبال الأنديز واتجاه فتحاتها المعماري لتسهيل حركة الهواء. كانت تُبنى عادةً بأحجار متينة ولها فتحات تهوية مدروسة تساعد على حفظ الغذاء لفترات طويلة دون تلف، وهو ما كان ضروريًا لتأمين حاجات الجيش وتوزيع المؤن على القرى في أوقات الجفاف أو الأزمات. تُمثل الكولاكا دليلاً على تقدم الإنكا في إدارة الموارد الغذائية والتخزين، وعلى فهمهم العميق للبيئة الجبلية واستثمارها بطريقة علمية فعالة دون الحاجة إلى تقنيات تبريد حديثة.  

وبرعوا كذلك في استخدام "الكويبو" quipu،  نظام "كويبو" (Quipu أو ( Khipu)  كان بمثابة أداة حسابية وتوثيقية استخدمتها حضارة الإنكا لتسجيل المعلومات الإدارية والمالية والبيانات السكانية والزراعية، وربما بعض الحكايات أو الوقائع الشفهية. يتكوّن الكويبو من خيوط ملونة مصنوعة من صوف اللاما أو القطن، تُعقد بطرق مختلفة وتُربط بخيط رئيسي، حيث كانت ألوان الخيوط، وأنواع العقد، ومواقعها على الخيط تمثل رموزًا عددية أو دلالات معنوية معينة. كان المختصون بقراءتها يُعرفون باسم "كيبوكامايوك"، وكانوا قادرين على تفسير هذه الرموز المعقّدة وتوظيفها في إدارة الدولة وجمع الضرائب وتنظيم المحاصيل وتعداد السكان. رغم أن الكويبو لم يكن كتابة بالمعنى التقليدي، إلا أنه مثّل نظامًا معرفيًا بصريًا وفعّالًا أتاح للإمبراطورية تنظيم شؤونها بدقة، ويعد اليوم من أبرز الشواهد على براعة الإنكا في تطوير أدوات معرفية فريدة في غياب الكتابة الأبجدية. 

تجلّت براعة تلك الحضارات في الجمع بين الملاحظة الفلكية والمعتقد الديني. فقد بنيت المعابد والمراصد في مواقع فلكية محكمة، تشير إلى الانقلابات الشمسية والاعتدالات، مثل معبد Kukulkan في مدينة تشيتشن إيتزا Chichén Itzá، الذي يُظهر ظاهرة ظل الأفعى الهابطة يومي الاعتدالين.  وتعد ظاهرة "كوكولكان" (Kukulkan)  من أعجب الشواهد على براعة حضارة المايا في دمج الفلك، والهندسة المعمارية، والرمزية الدينية.  ففي كل عام، عند الاعتدالين الربيعي والخريفي (حوالي 21 مارس و21 سبتمبر)، تسطع الشمس بطريقة تجعل ظل الزوايا الحجرية الهرمية في معبد الإله كوكولكان (ويُعرف أيضًا بهرم إل كاستيو) يسقط على السلالم الشمالية، مكوِّنًا خداعًا بصريًا مذهلًا. يظهر تموج ظليّ يشبه جسم أفعى تتحرك تدريجيًا نحو أسفل الدرجات، حتى يتصل أخيرًا برأس أفعى منحوتة عند قاعدة الدرج، ما يوهم الناظر بأن "كوكولكان"، الإله ذو الهيئة الأفعوان المجنّحة، ينزل من السماء إلى الأرض. هذه الظاهرة ليست عشوائية، بل تعكس فهمًا متقدمًا لدورات الشمس والزوايا الفلكية، حيث بنى المعماريون المايا الهرم بزاوية مائلة ومحسوبة بدقة متناهية. ومن المثير أن هذا الحدث كان مرتبطًا بمعتقدات المايا الموسمية حول الزراعة والخصوبة والتجدد، مما يشير إلى تلاحم عميق بين العلم والطقس الديني والفلسفي في فكرهم. ومثل المايا، اعتمد الإنكا أيضًا على فهم دقيق لحركة الكواكب والنجوم، حيث كانت طقوس الزراعة والتقويم تعتمد على رصد الأبراج والنجوم، لا سيما كوكبة الثريا.

رغم غياب نظم الكتابة الأبجدية الكاملة في بعض هذه الحضارات، فقد نجحت في تشييد أنظمة علمية وفكرية واقتصادية متقدمة، حافظت على التوازن البيئي، والإدارة المركزية، والتطور المعرفي. ومع وصول الغزاة الأوروبيين في القرن السادس عشر، انهارت هذه الإمبراطوريات تحت وطأة السلاح والأوبئة، لكن آثارها المادية والروحية باقية، تشهد على حضارات عريقة لم تكن أقل شأناً من نظيراتها في الشرق والغرب.


نكمل في رقم ٤ الحديث عن بعض الحضارات الأخرى


فؤاد

٧ اغسطس ٢٠٢٥

تعليقات