تواضع المعرفة اولى من غرور توهمها
خاطرة
لطالما شغلت مسألة حدود المعرفة الفلاسفة والعلماء. إذ أن إدراكنا للعالم من حولنا ليس كاملًا ولا متوازنًا، بل يتوزع على نطاق واسع بين ما نعرفه وما نجهله وما نجهل جهله وما ندعي علمه. ففي الفلسفة المعرفية، يُقسَّم إدراك الإنسان للكون غالبًا إلى أربع حالات رئيسية، وهو تقسيم يساعد على وضع خريطة ذهنية لمدى إحاطتنا بالحقائق. هذه الحالات تشمل ما نعرفه معرفة صحيحة مثبتة ومنها ما نعرف انه قابل لان يتم نقصه وربما اثبات عدم صحته، وما نظن أننا نعرفه لكنه في الحقيقة معرفة زائفة أو مغلوطة وكأننا نتوهم معرفته، وما ندرك أننا لا نعرفه أصلًا، وأخيرًا ما لا نعرفه ولا ندرك حتى أننا لا نعرفه. اعلاها قيمة هو ما نعرفه وما نجهله ونسعى لمعرفته. واقلها قيمة واخطرها هو ما نتوهم انتا نعرفه، فتوهم المعرفة تقف سدا منيعا امام المعرفة الحقة وتفتح الطريق للغرور بوهم المعرفة على انها معرفة. هذا التصنيف لا يقتصر على الأفراد فقط، بل ينطبق أيضًا على المعرفة الجماعية للبشرية بأكملها.
بطبيعة الحال، فمن المستحيل تحديد نسب دقيقة لكل واحدة من هذه الفئات الأربع، لأن المعرفة — فردية كانت أو جماعية — تتغير باستمرار وتتوزع بشكل غير متساوٍ بين المجالات. ولكن إذا فكرنا في كل ما يمكن معرفته عن الكون، فإن الجزء الذي “نعرفه حقًا” هو مقدار صغير للغاية، وربما هو أقل بكثير من 1% برغم انه يوجد من يفول انها ٥٪. أما ما “نظن أننا نعرفه ولكنه خاطئ” فهو أكبر مما قد نتوقع، إذ تكشف مراجعات التاريخ العلمي أن نسبة كبيرة من المعارف السابقة تبيّن خطؤها، ومن المحتمل أن ينطبق الأمر على جزء مما نعتقد صحته اليوم. أما “ما نعرف أننا لا نعرفه” فهو أوسع، مثل إدراكنا لجهلنا بحقيقة المادة المظلمة أو أصل الحياة أو كيفية نشوء الوعي. وأخيرًا، “ما لا نعرف أننا لا نعرفه” قد يكون هو الأكبر على الإطلاق، ويشمل المجهولات التي لم تكتشف بعد.
الأمثلة على هذه الفئات عديدة ومتنوعة. ففي علم الفلك، قد يعرف الشخص بعض الحقائق الصحيحة عن حركة الكواكب (معرفة صحيحة)، وقد يعتقد خطأً أن الشمس تدور حول الأرض (معرفة زائفة)، وقد يكون على وعي بأنه لا يعرف تفاصيل تشكل الثقوب السوداء (جهل واعٍ)، بينما تظل هناك ظواهر لم تُرصد بعد ولا يدرك الإنسان حتى الآن أنه يجهلها (جهل غير واعٍ). وفي علم الأحياء، نحن نعرف بعض آليات الوراثة، ونظن أن بعض العوامل البيئية تؤثر بطريقة معينة لكن الأبحاث قد تكشف عكس ذلك، وندرك أننا لا نفهم تمامًا آلية نشوء الوعي، بينما ربما توجد عمليات بيولوجية لم نكتشفها بعد. وفي علم الاجتماع، نعرف أنماطًا عامة للسلوك الإنساني، لكننا قد نتمسك بنظريات خاطئة، وندرك في الوقت نفسه أننا لا نعرف أثر بعض التغيرات الثقافية، فيما تبقى هناك ديناميكيات اجتماعية لم تُرصَد قط.
هذا الشكل هو فقط للتقريب ولا دقة للنسب الموجودة عليه، وضعته لتبيان التفاوت الكبير بين ما هو معلوم وما هو مجهول، لعله يغرس فينا التواضع امام ما نعلم ويشجع على السعي للتعلم. (الاخضر ما نعلمه ، الأزرق ما نتوهم أننا نعلمه، البنفسج مالانعلمه ولا نعلم أننا لا نعلمه، والاحمر ما نجهله، وقد يكون لآخرين رأي وتوزيع مختلف).
فؤاد
اغسطس ٨
٢٠٢٥
تعليقات
إرسال تعليق