في تحصيل العلم: هل أخذنا "تأليه" المنهج العلمي لما ليس بعلمي!؟ - I


نظرة سريعة على ما انتجته الحضارات القديمة -١

"هذه سلسلة مقالات تبدأ باستعراض الإنجازات العلمية والفكرية والفلسفية للحضارات القديمة، وصولا الى ما قبل النهضة في أوروبا. ثم نستعرض إنجازات المسلمين وبعدها نتحدث عن إنجازات أوروبا عصر النهضة وكيف تم تكريس المنهج العلمي منذ بدايات ابن الهيثم في كتابه المناظر ،عندما تحدث عن المنهج التجريبي وطبقه، وتثبيت فرانسيس بيكون له في كتابه الآلة الجديدة  في العالم الغربي كمنهج لتحصيل العلوم، وطرح رينيه ديكارت الأساسية في كتابه مقال في المنهج ، الذي يتمحور حول تطوير منهج عقلاني جديد للوصول إلى الحقيقة اليقينية في العلوم والفلسفة، مع رفض المناهج التقليدية المبنية على السلطة أو التقاليد، وصولا لاطروحات فيلسوف العلم النمساوي بول فايراباند المعاصر، في كتابه ضد المنهج، الذي رفع فيه شعار "كل شئ يمشي أو ممكن" في تحصيل العلم ، ونفصل في أطروحاته ، وفي مواقف المؤيدين والمعارضين له ومن ثم نصل لخلاصات في نهاية الحديث في آخر السلسلة"

ونبدأ هنا بمقدمة بعدها نتناول انجازات حضارات بلاد الرافدين القديمة وحضارات الصين والهند القديمة

العلم هو ثمرة الفضول البشري، والمحاولات الدؤوبة المستمرة عبر عمر البشرية التي تدفعها لفهم العالم من حولها. هذه المحاولات لم تبدأ مع معرفتنا بتبني المجتمعات المنهج التجريبي الحديث، بل إن تراكم المعطيات العلمية عبر القرون، تفصح عن حقيقة وجود محاولات أخرى. فلقد سبق تبني المنهج العلمي، قرون هيمنت فيها التفسيرات الأسطورية والخرافية وغيرها. فلقد كان الإنسان الأول يفسر الكثير من لظواهر الطبيعية كالبرق والرعد والفيضان والجفاف، بنسبتها إلى قوى خفية أو آلهة غاضبة. فتشكلت الميثولوجيات (وهي المعتقدات والقصص والأساطير التي كوّنت ثقافات الشعوب وفسّرت بها الظواهر الطبيعية والكونية)، كأساس لفهم العالم وتوجيه السلوك البشري. ومع أنها لم تكن علماً بالمعنى الدقيق، إلا أنها شكلت اللبنات الأولى في مسيرة فهم الإنسان للطبيعة التي يعيش فيها. لكن، عند استعراض ما تم إنجازه منذ التاريخ القديم حتى زمن ابن الهيثم (١٠٤٠م) الذي يظهر لنا أنه أول من تبنى المنهج التجريبي، يجعل الانسان يقف مدهوشا من مستوى تعقيد بعض الاكتشافات، ويجعل من الصعب تخيل الوصول اليها بدون وجود منهج علمي صارم، أو التوصل اليها من خلال الميثولوجيا التي كانت مهيمنة! أو ربما تم التوصل لبعضها من خلال التأمل والتفكير وفصل العقل عن الميثولوجيا كما هو الحال عند الاغريق. وفي غياب الدليل على وجود منهج علمي في الحضارات القديمة، ومع إمكانية التعرف على البعض الذي انتجه الفلاسفة بتأملاتهم وتفكرهم، لا يبقى أمامنا الا أن نفترض أن كل ما تبقى من منتجات واكتشافات عبر القرون حصلت بدون الخضوع لأي منهج علمي صارم في الوصول اليها. ولاستحضار حجم تلك المنجزات وتلمس تقديرات لتعدادها وتنوعها، سنقوم في الفقرات  التالية من هذه الدراسة بإلقاء الضوء على أهم ما أنتجته مختلف الحضارات العالمية القديمة في بلاد الرافدين والصين والهند وبلاد فارس ومصر وما توصل اليه الاغريق والرومان وبعدهم العالم الاسلامي، حتى بدايات العصور المظلمة في أوروبا. 

شهد التاريخ الإنساني منذ أقدم عصوره تبلور حضارات عظيمة على امتداد جغرافيا الأرض، شكلت كلٌّ منها منظومة فكرية وثقافية واقتصادية وعلمية متميزة، وأسهمت في بناء صرح الحضارة العالمية بتراكم المعارف والابتكارات. لم تكن الحضارات القديمة مجرد كيانات سياسية أو عسكرية، بل كانت مراكز إشعاع علمي وفكري، تركت آثارًا عميقة في مسيرة الإنسان نحو الفهم والتحكم في محيطه الطبيعي والاجتماعي. في الشرق، بزغت الحضارة المصرية القديمة على ضفاف النيل منذ الألفية الرابعة قبل الميلاد، فابتكرت أنظمة دقيقة في الحساب والفلك والهندسة والطب، وكان لتقديسها للمعرفة والكتابة دور محوري في ازدهارها. وعلى الجانب الآخر، تجذرت الحضارة السومرية ثم البابلية والآشورية في بلاد الرافدين، وأسست أقدم القوانين المدونة، وطورت علم الفلك والتقويم والرياضيات، كما حفلت نصوصها بأساطير وأسئلة فلسفية عميقة عن الكون والوجود. أما في فارس، فقد سطع نجم الإمبراطورية الأخمينية ثم الساسانية، اللتين جمعتا بين التنظيم الإداري المتقدم والرعاية الواسعة للعلوم والفلسفة والطب والفلك، واحتفظت اللغة الفهلوية بنصوص علمية وفكرية كثيرة. وفي شبه القارة الهندية، ازدهرت حضارات السند والفيدية ثم الماورية والغوبتا، حيث تطورت الرياضيات إلى أشكال متقدمة شملت الصفر والجبر، كما قدمت الفلسفات الهندية أنساقًا فكرية عميقة حول النفس والوجود والكون. وفي الشرق الأقصى، كانت الحضارة الصينية واحدة من أطول الحضارات عمرًا وأكثرها إنتاجًا، إذ امتدت آلاف السنين وقدمت ابتكارات في الورق والطباعة والبوصلة والبارود، كما أرسى فلاسفتها مثل كونفوشيوس ولاوتسي تقاليد أخلاقية وفكرية أثرت في ملايين البشر. أما الإغريق، فقد جسدوا العقل التحليلي والمنهج البرهاني، فانبثقت من مدنهم الفلسفة الطبيعية والمنطق والهندسة النظرية، وكان لفلاسفتهم وعلمائهم أمثال أرسطو وأفلاطون وأرخميدس الأثر الكبير في تشكيل مبادئ التفكير العلمي. وفي أعقابهم، واصل الرومان البناء على ميراث الإغريق، وأضافوا إليه تنظيمًا قانونيًا وعمليًا متينًا، وجعلوا من البنية التحتية والطب والإدارة العامة مجالات للتقدم الملحوظ. أما في العالم الجديد، فقد أزهرت حضارات المايا والأزتك والإنكا في أمريكا الوسطى والجنوبية، فطورت أنظمة معقدة في التقويم والفلك والزراعة والهندسة المعمارية، وتركوا وراءهم مدنًا هائلة، وأهرامات، وسجلات رقمية توحي بعمق معرفتهم بالزمن والبيئة والمجتمع. هذه الحضارات، على اختلافها الزمني والمكاني، جسدت تجليات الإنسان في بحثه الدائم عن المعرفة والنظام والجمال، وأسست مجتمعات نهلت منها البشرية لاحقًا أسس العلم والفكر والفن والإدارة، وفتحت آفاقًا لبناء حضارة إنسانية شاملة.

منجزات حضارة بلاد الرافدين القديمة

في أعماق التاريخ، وعلى ضفاف دجلة والفرات، نشأت حضارات بلاد الرافدين، حاملةً مشعل الريادة في العلم والفكر والتنظيم المدني. ففي السومرية بزغ فجر الكتابة المسمارية، وظهرت أولى المدونات القانونية والملاحم الأدبية، مثل ملحمة جلجامش، التي شكلت إرهاصًا مبكرًا للفكر الإنساني حول الخلود والمعنى. أما البابليون، فقد أرسوا أسس علم الفلك والحساب بوضعهم للنظام الستيني وطوروا تقويما فلكيا متقن، ودوّنوا قوانين حمورابي التي تُعد من أقدم التشريعات المنظمة للحياة الاجتماعية. وجاء الآشوريون ببراعة التنظيم العسكري والهندسي، فأنشأوا شبكات الطرق، وشيّدوا مكتبة نينوى التي حفظت تراثًا علميًا ومعرفيًا هائلًا. لقد كانت حضارات بلاد الرافدين مهدًا لتطورات علمية وفكرية سبقت عصرها، وأسهمت في تشكيل الأسس التي نهضت عليها لاحقًا حضارات العالم القديم. في حضارات السومرية والبابلية والآشورية، تطور التفكير الكوني، وبدأ تسجيل الظواهر بدقة، خصوصاً في علم الفلك. وكان البابليون بارعين في المراقبة الدقيقة لحركة الكواكب والنجوم، ووضعوا تقاويم فلكية لا تزال موضع دراسة حتى اليوم. غير أن التفسير ظل مشبعًا بالرمزية الدينية والتنجيم. ففي زمن السومريين، عرف العديد من الشخصيات التي ساهمت في تطور حضارة الرافدين. ومن أهمها إنكيدو وجلجامش وهما شخصيتان محوريتان في "ملحمة جلجامش"، وهي من أوائل وأبلغ الشواهد على هذه المقاربة الرمزية للمعرفة، حيث تنعكس فيها محاولة الإنسان الأول لفهم الخلود والموت، وصراعه مع قوى الطبيعة، والتساؤل عن ماهية الحكمة، في بنية سردية تجمع بين الملاحظة الأخلاقية والرمز الكوني والبعد الميتافيزيقي وهي واحدة من أقدم وأشهر الأعمال الأدبية في التاريخ البشري، وتعود إلى حضارة بلاد الرافدين (سومر وأكاد وبابل)، وتحديدًا إلى نحو الألفية الثالثة قبل الميلاد. فجلجامش هو ملك مدينة أوروك السومرية، مخلوق في هيئة نصف إله ونصف إنسان، وعُرف بقوته وشجاعته، و كان طاغية متجبّراً في بداية حكمه. ولمواجهة غروره، خلقت الآلهة له نداً من الطين إنكيدو وهو الإنسان البريء الذي عاش في البرية مع الحيوانات، وكان رمزاً للبراءة والطبيعة. لكنه بعد أن يتعرف على الحضارة ويصبح إنسانًا متمدنًا، يصبح صديقًا حميمًا لجلجامش، ويشاركه مغامرات بطولية مثل قتل همبابا حارس غابة الأرز، وقتل الثور السماوي الذي أرسلته الآلهة عقابًا لهما. وتتحول العلاقة بينهما إلى صداقة عميقة تمثل قيم البطولة، والوفاء، والتحول الإنساني. وعندما يموت إنكيدو، يدخل جلجامش في رحلة طويلة للبحث عن الخلود، خوفاً من الموت، في واحدة من أقدم التأملات في الوجود والخلود والمعنى. تعمدت الاطالة في الحديث عن ملحمة جلجامش لأنها ليست مجرد قصة مغامرات، بل هي عمل أدبي وفلسفي عميق يعبّر عن قلق الإنسان القديم تجاه الحياة والموت، ويعكس ملامح الفكر الديني والأسطوري في حضارات ما بين النهرين. إضافة للملحمة هذه، اخترع السومريون الكتابة المسمارية، وبنوا أول نظام مدني وإداري وديني، واخترعوا العجلة والتقويم، وشيدوا المعابد الهرمية.  وكان منهم شروكين (سرجون الأكادي) القائد العسكري الذين أسس إمبراطورية الأكاديين، مما ساهم في توسيع حدود العراق القديم ورفع شأنه. وفي مجال الفلك، يُعتبر السومريون من أوائل من استخدم نظام الأعداد الستينية، الذي أثر في حسابات الوقت والمكان حتى يومنا هذا. أما في الأشوريين، فقد برزت شخصية آشور بانيبال، الذي يُعد أحد أعظم ملوك آشور. فآشور هو من أرسى أسس المكتبة الشهيرة في نينوى، التي ضمت آلاف المخطوطات الطينية التي تناولت موضوعات مثل الطب والفلك والأدب. وبرز عالم الفلك البابلي نابو، الذي اهتم بالحسابات الفلكية واستخدم التقويم الشمسي لتحديد الأوقات. وفي الطب، تميز أسيدو ، الطبيب الأشوري المعروف، وهو من أوائل من اهتموا بتوثيق الأمراض وعلاجها. أما الشخصيات البارزة في البابليين فكان حمورابي ، الذي يُعتبر من أبرز ملوكها، وهو واضع “شريعة حمورابي" التي شكلت أساسًا للنظام القانوني في العالم القديم. وهم من بنو اعجوبة الدنيا، حدائق بابل المعلقة. وبرز منهم نابونيدوس ، آخر ملوك بابل، الذي كان له اهتمامات فلكية وعلمية كبيرة، وقام بدراسات معمقة حول حركة الأجرام السماوية. ويعتبر البابليون من أوائل من ابتكروا أساليب متقدمة في تحديد مواقع النجوم والكواكب.  بهذه الإنجازات، ساهمت بلاد الرافدين بشكل كبير في تطوير العلوم والمعرفة، ما ترك آثارًا مستمرة على الحضارات اللاحقة.

منجزات حضارات الهند والصين القديمة

وهناك في قلب الشرق، حيث امتزجت التأملات العميقة بالظواهر الكونية، بزغت حضارتان من أقدم ما عرفه التاريخ: الهند والصين. لم تكن حضارتهما مجرد مظاهر عمرانية أو نظم سياسية، بل كانت انعكاسًا لتصورات كونية متجذرة، وفهم باكر لطبيعة الإنسان والوجود. ففي الهند، تلاقت الفلسفة مع الرياضيات، والروح مع الطبيعة، فأنتجت رؤية للعالم متشابكة، تنظر للزمن على أنه دائرة، لا خطا مستقيما كما تنظر له الحضارة الغربية، فالتاريخ يعيد نفسه، والحضارات تتتابع وتتناوب في حضورها. أما في الصين، فانبثق الفكر من مراقبة التناغم بين السماء والأرض. وفي نسق يمزج بين العلم والحكمة صيغت مفاهيم التوازن، والنظام، والطاو وهو النهج أو الطريق الذي يرمز للقانون الكوني الأزلي غير المرئي الذي يُنظّم الكون والحياة والطبيعة، والذي يتجلى في كل شيء دون أن يُدرك مباشرة. لقد مهّدت هاتان الحضارتان الطريق لفهم عميق للكون، سابقٍ لعصره، وجعل من الشرق القديم منبعًا مستمرًا للفكر الإنساني. لم تقتصر اسهامات حضارتي الهند والصين، على مجالات محددة، بل تنوعت وتعددت إسهاماتهما فشملت الزراعة والهندسة المائية والفلزات. وبسبب ذلك، شكَّلت الحضارتان الهندية والصينية دعامتين أساسيتين في بناء صرح المعرفة الإنسانية، حيث قدَّمتا إسهامات علمية وتقنية غيَّرت مسار التاريخ من العصور القديمة حتى بزوغ فجر النهضة الأوروبية. 

فالهند لعبت دورًا محوريًا في تطوير المعرفة العلمية منذ حضارة وادي السند حوالي ٢٥٠٠ قبل الميلاد، وبرعت في الهندسة المدنية والزراعة. فالهارابيون وهم شعب حضارة وادي السند، إحدى أقدم الحضارات الحضرية في العالم، والتي ازدهرت في جنوب آسيا بين نحو2600 ق.م و1900 ق.م، طوروا أنظمة ري متقدمة، بما في ذلك قنوات الري وخزانات المياه مثل تلك الموجودة في غيرنار السلسلة الجبلية  الواقعة في ولاية غوجارات غربي الهند، ٣٠٠٠ قبل الميلاد. كما استخدموا موازين ومعايير قياس دقيقة للأوزان، مما يدل على فهم عميق للرياضيات التطبيقية.  وهذا ما قدمته النصوص الفيدية الهندية (والفيدية الهندية هي أقدم النصوص الدينية والأدبية والفلسفية في التقاليد الهندوسية، وتُعد من أقدم الوثائق المكتوبة في التاريخ الهندي القديم، ويُنظر إليها على أنها أساس الديانة الفيدية التي تطورت لاحقًا إلى الهندوسية) من مفاهيم رياضية كاختراع النظام العشري والصفر. وبلغت الفلكيات الهندية درجة متقدمة من الدقة، حيث وضع عالم الفلك   آريابهاتا، في القرن الخامس الميلادي، نظرية دوران الأرض حول نفسها وحسب قيمة π بدقة. وفي القرن السادس قبل الميلاد، اكتشف عالم الرياضيات والفلكي براهما غوبتا   قواعد حل المعادلات التربيعية واستخدم الأعداد السالبة، وطوَّر معادلات جبرية معقدة سبقت عصرها بقرون. وفي القرن الثاني قبل الميلاد درس بينغالا المتسلسلات العددية ومبادئ الجبر، وطور النظام الثنائي للأرقام. وفي الكيمياء، طوَّر الهنود تقنيات متقدمة في استخلاص المعادن وفي القرن السادس قبل الميلاد طورت مدرسة  فايشيشيكا   الذرية (التي تمثل أحد المدارس الكبرى للفكر الفلسفي الهندي القديم المعروفة باسم "دارشَنَة" (Darśana)، وتُعد من أكثرها ارتباطًا بالفكر العلمي، لأنها قدّمت نظرية ذرية فلسفية تُعد من أقدم ما وُضع في هذا المجال في تاريخ الفكر الإنساني وتنسب الى الحكيم كانادا) نظريات حول الجسيمات غير القابلة للتجزئة، متقدمة على الأفكار الغربية بقرون. وساسهب مرة آخري في التفصيل، وهذه المرة في الحديث عن هذه المدارس وتفصيل سياقاتها الستة،  لابراز أهمية دورها وتلمس مكانتها العلمية والفكرية والروحية التي تعدت الزمن والمكان. فالمدارس الفكرية الهندية القديمة تمثل ستة أنساق فلسفية كبرى تُعرف بـ"الدارشنات"، وهي نيايا، وفايشيشيكا التي ذكرناها قبل قليل، وسانكهيا، ويوغا، وميمامسا، وفيدانتا، وقد ظهرت وتبلورت في إطار الثقافة الفيدية الممتدة من الألفية الأولى قبل الميلاد. لم تكن هذه المدارس ديانات مستقلة، بل مذاهب عقلية وروحية تسعى لفهم طبيعة الوجود وغاية الإنسان عبر أدوات متنوعة كالتجربة، والعقل، والنصوص المقدسة. مدرسة نيايا تُعد معقل المنطق الهندي، حيث أسست نظماً دقيقة للاستدلال البرهاني من خلال أربعة مصادر للمعرفة: الإدراك، والاستنباط، والمماثلة، والشهادة، واعتبرت أن تحرير النفس لا يتم إلا عبر إدراك الحقيقة. أما فايشيشيكا فقد ارتكزت على نظرية ذرّية مبكرة ترى أن الكون يتكوّن من ذرات أزلية تتحد بطرق متعددة، ووضعت تصنيفات ميتافيزيقية للوجود تشمل الجوهر والفعل والكينونة. في المقابل، طرحت سانكهيا نظاماً ثنائياً عميقاً يرى أن الكون نتاج تفاعل بين عنصرين مستقلين هما الروح (بوروشا) والطبيعة (براكريتي)، وأن خلاص الإنسان يتم حين يعي التمايز بينهما، وقد أثرت هذه الفلسفة في مفاهيم اليوغا والتأمل لاحقاً. اما مدرسة يوغا، والتي تُنسب إلى باتانجالي ونصه الشهير "يوغا سوترا"، مثلت التطبيق العملي للفكر السانكهي، فاعتبرت أن ضبط الذهن والانفعالات والنفس هو الطريق إلى التحرر، مستخدمة تمارين بدنية ونفسية وروحية متقدمة. أما مدرسة ميمامسا، فقد اهتمت بتفسير القسم الطقسي من الفيدا، واعتبرت أن الالتزام الصارم بالواجبات الدينية والطقوس هو جوهر العمل الخلاصي، ورفضت فكرة الخالق المتحكم، مؤكدة على أن قوانين الكارما تعمل بصرامة آلية. وأخيراً جاءت فيدانتا، المدرسة التي استندت إلى الأوبانيشاد، لتطرح أعمق تأملات الهندوسية حول الذات والوجود، حيث اعتبرت أن الروح الفردية (آتمن) متحدة بالحقيقة المطلقة (براهمان)، وانقسمت إلى تيارات متعددة أبرزها أدفايتا اللا ثنائية لشانكارا، والثنائية المؤهلة لرامانوجا، والثنائية الكاملة لمادفا، مما يعكس غنى هذا التيار وتنوعه الداخلي. وقد ساهمت هذه المدارس مجتمعة في تشكيل نسيج الفكر الهندي القديم، وأثرت في فلسفات الشرق والغرب، إذ نجد صداها في التصوف، وعلم النفس، ونظريات المعرفة، حتى في مدارس الفلسفة المقارنة المعاصرة. كما اخترع الهنود الفولاذ ووتز(نوع فائق الجودة من الفولاذ القديم، اشتهر بإنتاجه في جنوب الهند وسريلانكا منذ القرن الأول قبل الميلاد واستخدم في صنع السيف الدمشقي لاحقًا)، الذي صُدر إلى العالم الإسلامي وأوروبا لصلابته الفائقة. وفي الطب، اشتهر سوشروتا )الملقب بابي الجراحة، وهو من روّاد علم الجراحة في التاريخ البشري في القرن الخامس قبل الميلاد ) بأطروحته عن الجراحة والتشريح، والتي تضمنت وصفًا دقيقًا لأكثر من 300 عملية جراحية و120 أداة طبية. 

 أما في الصين، قلب الشرق الآسيوي، وعلى امتداد آلاف السنين، فقد أزهرت حضارتها كواحدة من أعظم الحضارات القديمة وأكثرها استمرارية وتأثيرًا. فبفضل تمازج الفكر الكونفوشي والتقاليد الطاوية وروح الابتكار العلمي، أنجز الصينيون منجزات علمية وفنية غير مسبوقة. فقد اخترعوا الورق والبارود والبوصلة والطباعة، وأسهموا في تطوير الرياضيات والطب والفلك بتقنيات دقيقة وسجلات منتظمة. كما امتدت رؤيتهم التنظيمية إلى مشاريع عملاقة كالسور العظيم ونظام الري المتقن، مع تركيز خاص على التوازن بين الإنسان والطبيعة. كانت الحضارة الصينية بمثابة مختبر زمني للمعرفة، تنهل من الحكمة وتحولها إلى أدوات حضارية خلدها التاريخ وألهمت الإنسانية جمعاء. كانت الصين منارة للابتكارات التكنولوجية التي غيَّرت وجه العالم، فمنها عرف الورق عام ١٠٥ م على يد  أحد أبرز المبتكرين في تاريخ الحضارة الصينية والعالم واسمه تساي لون  ، والطباعة المتحركة 1040 م  بواسطة أحد الرواد اللذين غيروا مسار المعرفة البشرية   بي شنغ  ، والبوصلة المغناطيسية على يد تشو يو (Zhou Yu)، وذلك في عهد سلالة هان، حوالي القرن الثاني قبل الميلاد، لكن الاستخدام العملي الأكثر وضوحًا للبوصلة يعود إلى علماء صينيين في سلالة سونغ (Song) في القرن الحادي عشر الميلادي، ومن أبرزهم العالم شن كو (Shen Kuo) الذي وصف خصائص المغناطيس والاتجاهات بدقة في كتابه "ملاحظات حلم الغرفة".  واخترع الصينيون البارود ويُعتقد أن ذلك حدث خلال القرن التاسع الميلادي، في عهد سلالة تانغ (Tang)، وليس من المؤكد أن شخصًا واحدًا هو من اخترعه، بل كان نتاج جهود الخيميائيين الصينيين الذين كانوا يبحثون عن إكسير الخلود. وأول وصف معروف للبارود ظهر في كتاب الخيمياء "زاجينغ" (Zhenyuan miaodao yaolüe) حوالي عام 850م، وقد وصف فيه خيميائيون خليطًا مكونًا من نترات البوتاسيوم (الملح الصخري)، والكبريت، والفحم، ولاحظوا أنه يشتعل بعنف عندما يُعرض للنار. وفي القرن العاشر، أصبحت تركيبة البارود معروفة جيدًا في الصين، وبدأ استخدامها في الأسلحة النارية البدائية، مثل الرماح النارية والقنابل اليدوية، ثم لاحقًا في المدافع. وقد لعب هذا الاكتشاف دورًا ثوريًا في تغيير طبيعة الحروب، وانتقل لاحقًا إلى العالم الإسلامي ومنه إلى أوروبا، حيث استُخدم على نطاق واسع في العصور الوسطى، مما أدى إلى تغير جذري في تقنيات القتال والسيطرة. كما ابتكروا أنظمة ري متطورة لدعم الزراعة. هذه الاختراعات لم تكن مجرد أدوات عملية، بل حوَّلت طرق توثيق المعرفة وإدارة الحروب والملاحة البحرية. وفي الفلك، سجل الصينيون أول ظهور للمذنب هالي عام 240 ق.م، وطوروا تقويمًا شمسي-قمري دقيق. وقدم أحد العلماء المبدعين في الصين القديمة زهانغ هينغ   (78–139 م) نموذجًا ميكانيكيا للكون يشبه الكرة الأرضية لشرح حركة الكواكب. وفي الطب، اعتمد الطب الصيني التقليدي على الأعشاب والوخز بالإبر، مع نصوص مثل هوانغدي نيجينغ وهو أحد أقدم وأهم الكتب الطبية في الصين في القرن الثالث قبل الميلاد والتي وضعت أسس التشخيص والعلاج. وفي الهندسة، بنى الصينيون سور الصين العظيم باستخدام تقنيات متطورة للدفاع، كما أنشأوا شبكات طرق وقنوات مائية مثل القناة الكبرى في القرن الخامس قبل الميلاد والتي ربطت أنهار البلاد. وفي الزراعة، أدخلوا محراث الحديد والمحاريث المتعددة، مما زاد الإنتاجية بشكل كبير.


نكمل في رقم ٢ الحديث عن بعض انجازات الحضارات الأخرى



فؤاد 

٢٨ جولاي ٢٠٢٥

تعليقات