الدين والفلسفة والعلم
في قلب التجربة الإنسانية، تتقاطع ثلاثة محاور أساسية شكلت وجدان الإنسان عبر العصور: الدين، والفلسفة، والعلم. هذه المكونات لم تكن يومًا مجرد أدوات فكرية، بل كانت ولا تزال أنساقًا معرفية عميقة تحدد تصورات الإنسان عن الكون، والمعرفة، والغاية، والوجود. كل من هذه المكونات نشأ في لحظة احتياج جوهري، واستمر في التمدد والجدل مع الآخر، حتى باتت العلاقة بينها انعكاسًا لصورة الإنسان ذاته في محاولته لفهم ما هو أبعد منه، وما هو في داخله أيضًا.
الدين في جوهره ليس مجرد طقوس ومعتقدات، بل هو تصور كلي للوجود، يجيب عن أسئلة الإنسان الكبرى: من أين أتيت؟ ولماذا أعيش؟ وإلى أين المصير؟ منذ أقدم العصور، كانت المعتقدات الدينية جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمعات البشرية، بدءًا من الميثولوجيات الأولى في حضارات الرافدين، ووادي النيل، والصين القديمة، ومرورًا بالديانات التوحيدية الكبرى كاليهودية، والمسيحية، والإسلام. الدين مثل في تلك المجتمعات أداة لفهم القوى الطبيعية، ووسيلة لضبط السلوك، وأساسًا لتأسيس الأخلاق والتقاليد. وقد مثل الوحي في الديانات التوحيدية مصدرًا فوقيًّا للمعرفة، أتى يحمل تصورًا عن الكون والخلق والحياة والموت، لكن دون أن يلغي دور العقل في الفهم والتأمل، كما نجده في نصوص إسلامية كثيرة كقوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾، وهي دعوة للعقل للتفكر في النظام الكوني من خلال الدين، لا من خارجه.
أما الفلسفة، فقد نشأت باعتبارها سعيًا حثيثًا للعقل الإنساني نحو التأمل العقلي الحر في أسس الوجود، والمعرفة، والأخلاق، والسياسة. نشأت الفلسفة اليونانية في القرن السادس قبل الميلاد، مع حكماء مثل طاليس، وأنكسيمندر، وأرسطو، وأفلاطون، وسقراط، والذين طرحوا أسئلة عن طبيعة المادة، والعلل الأولى، والمبدأ الأول، دون الاعتماد على سلطة النصوص المقدسة، بل من خلال الحجاج العقلي والتأمل المجرد. وقد كانت الفلسفة، خصوصًا في أثينا، مدرسة في الحياة، لا تكتفي بالتنظير، بل توجه الإنسان إلى حياة فاضلة قائمة على العقل والخير. بعد انتقال الفلسفة إلى الحضارة الإسلامية، ظهرت أسماء كبيرة كالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، الذين سعوا إلى التوفيق بين الفلسفة والدين، معتبرين أن كليهما – في صورتهما النقية – لا يتعارضان، بل يتكاملان في توجيه الإنسان إلى الحقيقة الكبرى.
العلم من جهته تطور بوصفه استجابة عملية ومنهجية لرغبة الإنسان في فهم العالم الطبيعي من حوله. ومنذ بواكير التاريخ، استخدم الإنسان الملاحظة والتجربة في الزراعة، والفلك، والطب. لكن العلم بوصفه منهجًا منتظمًا لم يظهر بشكل واضح إلا مع علماء المسلمين في العصر الذهبي (القرن الثامن إلى الرابع عشر)، الذين رسخوا المنهج التجريبي قبل أن يُعاد استكشافه في أوروبا خلال الثورة العلمية (القرن السابع عشر). في أعمال أمثال ابن الهيثم في البصريات، والرازي في الطب، والبيروني في الجغرافيا، نجد أن العلم لم يكن منفصلاً عن الروح الدينية أو الفلسفية، بل نابعًا من شعور بأن الكون منظم بقوانين، وأن العقل قادر على فهمها. ثم مع غاليليو، وكبلر، ونيوتن، أصبحت التجربة والقياس الرياضي هما قلب المنهج العلمي، وبدأ العلم يأخذ موقعه بوصفه سلطة معرفية مستقلة عن الدين والفلسفة.
العلاقة بين الدين والفلسفة والعلم كانت عبر التاريخ علاقة جدل دائم، تتراوح بين التقاطع والتكامل من جهة، والتنازع والصراع من جهة أخرى. في الحضارة الإسلامية، كان هذا الجدل يميل إلى التوازن، حيث اعتُبر أن العقل والوحي طريقان إلى الحقيقة، وأن العلم أداة لفهم سنن الله في الخلق. ولذلك لم تشهد الحضارة الإسلامية ما يشبه "صراع الكنيسة والعلم" في أوروبا. نجد مثلًا في كتابات الغزالي، وهو فقيه وأصولي، إقرارًا بمكانة العلوم العقلية مثل الطب والرياضيات، بل وعدّ تعلمها من فروض الكفايات. كما نجد في فلسفة ابن رشد محاولةً عقلانية لتبرير ضرورة الفلسفة بوصفها تأملًا في الموجودات التي تدل على الخالق، مستخدمًا عبارة: "النظر في الموجودات نظرٌ في صانعها".
لكن العلاقة بين الدين والعلم في أوروبا الحديثة أخذت منحى أكثر تصادمية، نتيجة تحكم الكنيسة الكاثوليكية في تفسير الكون والأخلاق. فقد كانت الكنيسة تفرض تأويلاً محددًا للكتاب المقدس، وتمنع ما يخالفه من آراء، كما حدث مع غاليليو الذي حوكم لأنه أيّد نظرية كوبرنيكوس بأن الشمس هي مركز الكون، لا الأرض. هذا الصراع فتح الباب لظهور فلسفات علمانية لاحقة، سعت لفصل الدين عن المجال المعرفي، وظهرت حركات كعصر التنوير في القرن الثامن عشر، الذي نادى بأن العقل وحده هو مرجع الحقيقة، متجاوزًا الدين ومشككًا في سلطته. في هذا السياق، صعدت مكانة العلم كسلطة جديدة، بينما تم دفع الدين إلى الحيز الخاص، وتراجع دور الفلسفة التقليدية أمام التقدم العلمي.
مع تطور القرن التاسع عشر، بدأ العلم يتجه نحو مزيد من التخصص، وظهرت النزعة الوضعية مع أوغست كونت، التي ترى أن المعرفة الحقة لا تُستمد إلا من التجربة الحسية، متجاهلة الميتافيزيقا والدين. لكن في مقابل هذا التوجه، ظهرت فلسفات وجودية وروحية، كفكر كيركغارد ونيتشه وهايدغر، حاولت أن تسترد عمق الوجود الإنساني الذي لم تستطع أدوات العلم التجريبي وحدها فهمه. وفي القرن العشرين، أعادت الفيزياء الحديثة – من خلال النظرية النسبية وميكانيكا الكم – طرح أسئلة فلسفية وروحية عن طبيعة الكون والزمن والسببية، مما دل على أن حدود العلم لا تلغي الحاجة إلى الدين أو الفلسفة، بل تعيد ترتيب العلاقة بين هذه الحقول الثلاثة.
ولعل أبرز ما يميز الإسلام عن غيره في هذا السياق، أنه قدّم تصورًا متوازنًا ومركزيًّا يجمع بين الإيمان والعقل، ويعتبر العلم فريضة دينية، لا مجرد نشاط دنيوي. فالوحي في الإسلام ليس خصمًا للعقل، بل موجّه له. والأخلاق ليست مبنية على نسبية فردية كما في الفلسفة الوجودية، ولا على نفعية تجريبية كما في المذهب البراغماتي، بل هي مبنية على مقصد أسمى: تحقيق الخير للإنسان في دنياه وأخراه. لذلك، فإن العلم في الرؤية الإسلامية لا ينفصل عن الأخلاق، ولا يُستثمر في الشر أو السيطرة، بل يُستثمر في عمارة الأرض وخدمة الإنسان. وبهذا، يقدم الإسلام نموذجًا متكاملًا يجمع بين أدوات الفلسفة، ومنهجية العلم، وروحانية الدين.
وإذا نظرنا إلى اللحظة المعاصرة، فإن البشرية تقف اليوم أمام تحدٍ معرفي خطير: العلم يزداد تخصصًا وعمقًا، لكن من دون مرجعية قيمية ثابتة؛ والفلسفة تعاني التشتت والتشكيك بعد طغيان النزعات النسبية؛ والدين في بعض السياقات يُختزل في طقوس جامدة أو يُقصى من المجال العام. ولهذا فإن إعادة التفكير في العلاقة المتوازنة بين هذه المجالات بات ضرورة حضارية. لقد حاولت بعض المشاريع الفكرية الكبرى المعاصرة إعادة صياغة العلاقة بين هذه الأطراف في ضوء التحديات الحديثة، لكن الطريق لا يزال مفتوحًا أمام جهد جماعي يعيد توحيد هذه القوى الثلاث في مشروع حضاري جامع.
ختامًا، فإن الدين والفلسفة والعلم ليست طرقًا متنافسة بقدر ما هي مسارات متكاملة في سعي الإنسان لفهم العالم، وبناء معنى لحياته، وتحقيق قيمته في هذا الكون. الدين يمنح البوصلة، الفلسفة تمنح التأمل، والعلم يمنح الأدوات. وكل حضارة ناجحة هي تلك التي استطاعت أن تُبقي على هذا التوازن حيًا في فكرها ومؤسساتها، وفي قلب إنسانها العاقل العابد.
فؤاد محمد السني
جولاي ١٧، ٢٠٢٥
كلام جميل
ردحذفسعادة الأستاذ الدكتور
ردحذفاستمتعت كثيرا بالمقال العميق و الرائع ، الذي كان فعلا درسا شاملا نافعا في ميادين الدين و العلم و الفلفسة .. و أول ما راود تفكيري سؤال صادق في قصده و جادّ في طرحه .. و هو : لماذا لا يتحول هذا المقال إلى كتاب ؟ فهذا المحتوى و هذا الطرح السيال و التدرج السلس برغم صعوبة مضمونه و شائك موضوعه ، لا يستساغ أن يكون محصورا في مقال أو حتى عدة مقالات .. ليته ، و الله ، يتحول إلى كتاب .. و أراه مع غزير علمك و صفاء عقيدتك ، و علو همتك ، يتحول ليس إلى كتاب فحسب .. اسأل الله تعالى أن يتحول إلى مجلدات .. بحوله و قوته و بركات و شفاعة محمد و آله الطاهرين.