الغيب والجهل
الغيب والجهل
يعرف الغيب على أنه كل حقيقة لا يدرك طبيعتها العقل أو لا يتعامل معها الإنسان بالحواس حيث لا سبيل إلى معاينتها أو الوقوف عليها، لكنه يعتقد بوجودها كالمستقبل. وفي الدين يعرف الغيب بأنه هو العلم الذي يختص به الله سبحانه وتعالى دون غيره من خلقه وقد يظهر الله بعض الغيب لمن يصطفي من خلقه، كالملائكة أو كالمستقبل وما سيقع فيه والروح التي تحيي هذا الجسد عند الإنسان والحيوان هي من علم الغيب أيضاً، ندركها كحقيقة لكن لا سبيل إلى معاينتها أو إدراك طبيعتها. ويمكننا القول أن الغيب هو ما خلف المنظور (ما وراء الطبيعة) وهذا بخلاف الجهل الذي يعرف على أنه اعتقاد الشئ بخلاف ما هو عليه أو الاعتقاد الجازم بمعرفة الشئ مع عدم معرفته به.
لا بأس، مع هذا التعريف يمكن أن نطرح عدة أسئلة واستفسارات لتدارسها والتفكر فيها لربما ساهمت في تعزيز الفهم الأصيل لمفردتي الغيب والجهل أو على اقل تقدير أثارت بعض الفضول للتعرف عليها من مصادرها الأوثق. وهنا بداية التساؤلات.
هل يرتبط الغيب بالزمان والمكان؟ أم انه غيب في كل زمان، وهو أيضا غيب في كل مكان؟ وهل لمستوى التقدم الذي يعيشه الانسان في مجال العلوم والتقنية علاقة بحقيقة الغيب وحقيقة الجهل؟
ماذا عن علاقة الغيب بالجهل؟ وهل كل ما هو غيب هو في حكم المجهول؟ أم كل ما هو مجهول هو في حكم الغيب؟ وأيضا، ومن جانب آخر، ماهي علاقة او طبيعة علاقة مفهوم الغيب بالناس؟ فهل يرجع مفهوم الغيب للفرد ام لمجموع البشر؟ وهل يشترك مفهوم الجهل مع الغيب في هذا في رجوعه للفرد أو للمجموع؟
قبل المضي في تناول الأسئلة هذه وغيرها أرى لزاما علي أن اشير الى أن حقيقة ما هو غيب أمر غير معلوم لدى الانسان وبالتالي عند إشارة الانسان للغيب من منظوره فهو ( الانسان) لا يمكن أن يصيب مصداق الغيب، بل يعني في حديثه ما يتصوره غيبا بخلاف ما هو حقيقة الغيب التي يعرف سبحانه حقيقتها وحدودها.
لأول وهلة تبدوا دلالات المفردتين قريبتين من بعضهما. لكن مع التأمل في كل منهما سيتبين أن الفرق واضح في بعض جوانبه وغامض في جوانب أخرى. في أوضح الدلالات وبعيدا عن التفاصيل، فالغيب يرتبط بقدرة البشر على معرفة حقيقة الموضوع بغض النظر عن الاختلافات الفردية بين أفراد البشر. فما هو غيب هو ابعد عن قدرات البشر، وبالتالي فما هو غيب عند أحدهم هو غيب عند كل البشر، وما ليس بغيب عند أحدهم ليس بغيب عندهم جميعا. وهذا يوضح أيضا أحد الفروقات بين الغيب والجهل. فالجهل مرتبط بالشخص. فما يجهله أحدهم ليس بالضرورة يجهله الآخرون. وبالتالي قد يوجد ما هو مجهول ،لكنه ليس بالضرورة غيبا.
من جهة أخرى فإن الجهل بالشيء غير المصنف غيبا، ليس بالضرورة جهلا سيبقى مستمرا، بل هناك إمكانية انهاء حالة الجهل عند بذل الجهد الذهني والعقلي الذي سيأخذ بيد الفرد الى العلم به وانهاء حالة الجهل.
وهنا يبدوا هذا الامر مشتركا مع الغيب في أن البشر يمكنهم من تطوير قدراتهم المادية والعقلية لتوسيع دوائر قدراتهم على استقبال المزيد من المؤثرات التي تبثها الموجودات غيبية كانت او معروفة. فقدرة البشر على التعرف على الاشعة الفوق بنفسجية مثلا أتت لهم مع اختراع الأدوات لذلك، وكذا الامر المرتبط بسماع الموجات الفوق أو تحت سمعية باختراع أجهزة استقبالها وتمكن الانسان من الإحساس بوجودها، وبرؤية الكواكب البعيدة باختراع التلسكوبات المتدرجة القوة، وكذا الحال بالنسبة لمعرفة حرارة الأشياء حيث تمكن من معرفة حرارتها باختراع أجهزة قياس الحرارة التي تقع في نطاقات اعلى وأدنى من قدرة البشر على تمييزها. ويمكن قياس باقي الحواس على ذلك كاللمس والشم والذوق وربما غيرها!!
بمعنى أن تقدم التقنية يلعب دورا كبيرا في معرفة معالم الحد الفاصل بين الغيب (الذي يتصوره الانسان) وما هو غير غيبي وكذلك التعرف على توسع دائرة المنظور (ما ليس بغيب)، ولكن ليس بالضرورة تقليص مساحات او فضاءت الغيب. فقد يكون التعرف على ما كان غيبيا في نظر البشر هو مقدمة لمعرفة وجود نوافذ غيب جديدة كما هو الحال في الجهل أيضا. فتوسع دائرة المعلوم لا تعني تقلص فضاء الغير معلوم، بل بالعكس قد يفتح ذلك آفاقا جديدة لما هو مجهول وربما يتيح تقدم العلوم والتقنيات بتعريف منطقة من مناطق الغيب التي يمكن أن تسمى الغيب الممكن التعرف عليه عندما يكون التعرف عليه منوط بابتكار أجهزة توسع من قدرة الانسان على الإحساس بوجوده.
قبل اكتشاف الفيروسات، المتناهية الصغر، وربطها كسبب لبعض الامراض، كان الناس متسالمين مع فكرة أن مسبب تلك الامراض هو في علم الغيب. وبعد اكتشاف الفيروسات الغير ممكن رؤيتها بالعين المجردة تخلى الانسان عن وصفها أنها في علم الغيب. وكأن الغيب من منظار الخالق تعني ما لا يمكن للمخلوق معرفته مهما تعاظمت قدراته وتمكن من العلوم والوسائل وهو(الغيب وحدوده) ثابت لا يتغير. بينما الغيب، في نظر الانسان، هو أمر يتغير بقدر ما يطور الانسان من قدراته وتمكنه من اكتشاف ما كان في حكم الغيب لديه. وهذا الاستكشاف يستمر لكنه لا يمكن أن يتخطى مرحلة تطابق ما هو غيبي لدى الإنسان بما هو منذ البداية لدى الخالق. فليس بمقدور الانسان أن يسطو على ما هو غيب في حقيقته كما هو لدى الخالق.
ويكفي استحضار الحقيقة التي تبدوا واضحة ويتبناها العلماء الموضوعيون من أن العلم لا يمكن أن يمتلك الحقيقة عن "من أين؟ ولماذا؟ والى أين؟" ، وكل ما يرتبط بها ومعها من معنى للحياة والموت والروح. وكأن بعض المفردات القرآنية والمصطلحات تأتي بشكل ملفت ومبهر فهي تحمل معنى الغيب مع معطيات الواقع والبيئة الذي نزلت فيها فيفهمها أهل ذلك الزمان، لكنها أيضا تحمل معنى الغيب في كل الأزمنة اللاحقة مع ما تحمله من اختلاف في بيئتهم ومعطيات العلم لديهم.
أرجو أن كان في هذه الاسطر ما يستحق تخصيص هذه الدقائق من قبلكم لقراءته حتى "نهايته".
فؤاد
١٢ جون، ٢٠٢٥
تعليقات
إرسال تعليق