بين الدين والعلم -٢


انتهت الاسطر في المقال ( بين الدين والعلم -١)  بالقول إن هذه الاسطر ستكون مخصصة لتناول مثالين يبرزان العلاقة الوطيدة بين العلم والدين. وهنا لابد من التأكيد على أنه عند تناول العلم والدين ومحاولة تفحص العلاقة بينهما، فمن الطبيعي اتباع المنهج العلمي الذي يحتم وضع جميع الاحتمالات أمامنا ودراسة كل منها قبل المضي في تبيان تفاصيل وطبيعة كل منها. التضاد والتصادم هو أحد الاحتمالات، وفي الطرف الآخر قد يكون التكامل، وما بينهما خيار التعاون بينهما ورابع الاحتمالات هو التعايش بوضع فاصل "وهمي" بينهما يحدد مناطق واهتمامات كل منهم، ويقوم كل بمهامه التي حددها له مع التأكيد على الاحترام المتبادل بينهما. هذا العنوان ضخم بحجم يصعب الاحاطة به في كتاب كامل، فضلا عن مقال أو سلسلة مقالات، تحوي بعض أسطر تحمل افكارا ربما تكون مبعثرة هنا وهناك. لكني سأحاول!! وارجو منك القارئ الكريم محاولة تجسير الفجوات فيما غاب عني. وسأتناول الموضوع من خلال استحضار أمثلة لعلها تلقي الضوء على تلك العلاقة من خلال التمعن في البيئة والظروف التي حصلت فيها هذه الأمثلة. سأستعرض سريعا ما أنجزه المسلمون خلال الفتوحات كمثال أول، والمثال الثاني سيتناول حالة المجتمع الغربي خلال العصور المظلمة كشاهدين على أن العلاقة بين العلم والدين هي موجودة على أرض الواقع، وكانت علاقة وثيقة وفاعلة بدرجة كبيرة في تشكيل وضع المجتمع إيجابا او سلبا. 

مجتمع مكة والمدينة

حتى زمن بعثة النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم التي بدأت منذ عام ٦١٠، حيث تلقى ص أول كلمات الوحي التي نزل بها جبريل ع، كان مجتمع مكة والمدينة وما حولهما مجتمعا  يوصف بأنه مجتمع جاهلي غائب عن الحضور الحضاري أو الثقافي أو العلمي محليا فضلا عن غيابه على المستوى الإقليمي والعالمي. يؤشر على هذا، المستوى من التخلف الفكري والجهل لتلك التجمعات السكانية، ايمانهم بآلهة يأكلونها عندما يشتد الجوع بهم كونها مصنوعة بأيديهم من بعض أطعمتهم أو يبنون بها مساكنهم كونهم يصنعونها من بعض المادة الخامة لبناء بيوتهم. كما يؤشر على مستوى تخلف مجتمعهم الثقافي والإنساني، تعاملهم مع المرأة منذ ولادتها، واحتكامهم لقوة السلاح في تسوية الخلافات ولتحصيل لقمة عيشهم بالإغارة على تجمعات أضعف حالا منهم.  ويدل انحسار مهمة الفرد اليومية في توفير لقمة العيش للمحيط العائلي القريب، على انخفاض سقف اهتماماتهم وعدم وجود رسالة مجتمعية أو اهتمام خارج نطاق الذات.  قد تكون هذه نظرة سوداوية في توصيف مجتمع الجزيرة العربية في زمن ما قبل البعثة النبوية. ففي المقلب الآخر، هناك الشعراء الفطاحل وهناك المعلقات التي تشهد بقدرتهم وعطائهم الإنساني الخالد عبر القرون، وهناك الأنشطة التجارية التي كانت قوافلها تغطي رحلة الشتاء والصيف لكل من جنوب الجزيرة العربية وشمالها، وأيضا هناك صفات وعادات القبائل التي كانت سائدة في مجتمع المدينة ومكة وما حولها من إغاثة الملهوف والأعراف الاجتماعية الراقية، في السلم والحرب المتعارف عليها والواجبة الاتباع في مختلف المناطق. 

التغير الأساس الذي احدثه النبي ص

استمر النبي ص مع مجتمع المدينة ومع مجتمع مكة سنوات طوال امتدت ل ٢٣ سنة منذ كان عمره الشريف ٤٠ عاما، الى عمر ال٦٣ حيث انتقل الى ربه بعد أن أدى الأمانة وأبلى بلاء حسنا في إيصال خاتم الرسالات للبشر. وبوفاته انقطع الوصل بين السماء والأرض في هيئة النبوة والرسالة. بعد أن نشر النبي ص رسالته في مجتمعه ولم تخلوا تلك السنوات من دروس اجتماعية واقتصادية وروحية القاها عليهم وطبقها خلال تعامله معهم.  كما ترددت على اسماعهم آيات القرآن الكريم التي تحث على سمو الأخلاق وحسن التعامل والعدالة والمساواة والتعاون ومجملا حثت على مكارم الأخلاق إضافة للحث في القرآن الكريم بشكل مكثف على التفكر والتأمل والسعي لإعمار الأرض، وما رافقها من إيضاح لهذه الآيات وشروحات لمسببات نزول بعض الآيات وكان أفراد المجتمع الوليد، شاهدين على ما يأتي به النبي ص من إرشادات وتعليمات اقوالا وتطبيقا. وكانوا كذلك شهدوا النفلة النوعية في ترجمة مكانة مجتمعهم، بمخاطباته ص للدول الكبرى حينها، الروم وفارس ووعود القرآن لهم بالنصر والغلبة. 

ومع اكتمال رسالته، توفي النبي محمد ص، في نهاية الثلث الأول للقرن السابع الميلادي، وترك امته بعد أن أحدث فيهم تغييرا روحيا ونفسيا وسلوكيا لا يمكن تجاهله.  وكان من أهم التغييرات التي أحدثها النبي في هذه المجتمعات التي مهما كان توصيفنا لها بآنه خلق في المجتمع الثقة العالية بما يعتقدون فيه وبإمكاناتهم وكذلك خلق لهم مرجعية وبوصلة لكل أفعالهم، وطبقوها بالممارسة عن طريق التساؤل عنما يواجههم وسعيهم لمعرفة موقف الإسلام والقرآن والنبي ص منه وماذا ينبغي عليهم فعله. نعم تغيرت طريقة تعاطيهم مع محيطهم وأصبح التساؤل عن صوابيه ما يجهلونه، قبل الاقدام عليه، جزء من حياتهم. ومع بعض الوقت، تمكنوا من استيعاب حجم ما ألقي على عاتقهم من مسؤوليات في مسيرة أمتهم. 

الروم وبلاد فارس زمن البعثة

تزامن كل هذا مع لحظة تاريخية شهدت فيها تراجع قوة روما وتدهورها وتراجع مكانتها، وكذا الحال مع دولة فارس حيث نخرت فيهما الحروب والاضطرابات الداخلية، بعد أن استمر الصراع بينهما لسبعة قرون امتدت من عام ٥٣ قبل الميلاد متواصلة منذ أن كانت الإسكندرية مركزا رئيسيا للروم تحت حكم مملكة الروم. ومرورا بتحولها لإمبراطورية رومانية عام ٢٧ قبل الميلاد ومن ثم تحولها عام ٣٩١ ميلادي في عهد ثيودورس للمسيحية ومن ثم حصرها الديانات المعترف بها في الإمبراطورية الرومانية في الديانة المسيحية فقط والذي على أثره امر رئيس الأساقفة بالتخلص من غير المسيحين بدون استثناء. فشملت الحملة التخلص من اتباع اليهودية والوثنين وغيرهم من المؤمنين. 

جند يسابور مدينة التسامح

بالرغم من العداوة المستحكمة بينهما الا أن الامبراطور الفارسي وفي بدايات القرن الرابع الميلادي، أعجب بالمكتبة الضخمة في الإسكندرية التي كانت بمثابة مركز علمي يحتوي على مكتبة ودار للعلوم، فخطط لبناء شبيه لها في بلاد فارس. وتشاء الاقدار أن يهزم الروم على يد الجيش الفارسي عام ٢٥٩م خلال فترة حكم سابور بن أردشير الذي حكم في الفترة ٢٤١-٢٧٢ وتمكنوا من اسر امبراطور روما فاليران، والاستيلاء على فيلقين كاملين من جنود الروم بكل معداتهم. باع الفرس أحد الفيلقين للصين، وسيلوا ثمنه لبناء المنشآت الهندسية كالخزانات والقناطر. وقام سابور بتوطين جنود الروم في ثلاث مدن لينشؤوا مرافقها الهندسية وهي سابور كرد ، وبلاد الخوز ، ومدينة جديدة سميت جند يسابور  وتعني (معسكر سابور).  و بعد ٤٢ سنة في عهد سابور ذو الأكتاف جعلها مركزا للنشاط العقلي فاعتنى بجمع كتب الفلسفة اليونانية ووجه بترجمتها للفارسية واستقطب لها الحكماء والنوابغ في الطب. وكانت جند يسابور مدينة خصبة كثيرة الخير، بها النخل والزروع والمياه كما أورد ياقوت الحموي في معجم البلدان. واشتهرت جند يسابور بالتسامح الديني وبتشجيع العلم والعلماء.

النسطوريون (النساطرة) في جنديسابر

أنشأ نسطور وهو أحد رهبان أنطاكية وبطريرك القسطنطينية فرقة النسطوريون وهي مدرسة كنسية تعتبر في نظر كنيسة روما احدى الفئتين المنشقتين عن كنيسة روما والأخرى هي فئة المونوفيسيون. المنفيسيون يقولون بوحدة طبيعة المسيح. وهؤلاء كونوا طائفة الأقباط في مصر واليعاقبة في آسيا. أما النسطوريون فيتلخص معتقدها في أن الروح المفكرة لا تدخل الجسم الا بعد مولده، وبالتالي فإن طبيعة المسيح الإلهية لم تدخل جسمه الا بعد مولده أيضا!! وهذا يعني أن العذراء لم تكن والدته الا بالنسبة لطبيعة البشرية فقط. استثار هذا الأمر العالم الكنائسي ووصل لقرار بطرد نسطور من الكنيسة عام ٤٣١م ولكنه استقطب مؤمنين بمعتقده ومتابعين له من السوريان (من أهل سوريا) وتشكلت بذلك كنيسة انشقاقية واقاموها في حران ثم انتقلوا الى الرها. اشتهرت هذه الكنيسة بالاستقلال الفكري وتبنى اهل الرها المذهب النسطوري وأصبحت مركزا له.  لكن في عام ٤٨٩ م صنفت الكنيسة النسطوريين بانها منشقة على مذهب الإمبراطور البيزنطي، فأغلقت كنيسة الرها. وعلى إثر ذلك فر اتباعها من الرها، وتوجهوا الى جند يسابور حيث رحب بهم أكاسرة بني ساسان المشتهر عنها التسامح فوفروا لهم الحياة الكريمة فاتخذها النسطوريون وطنا لهم وأنشأوا بها مستشفى كبيرا ورتبوا بها المحاضرات والدروس لتعليم الطب وهكذا تكونت مدرسة العلوم وتخصصت في الطب وأصبحت مركز الطب في العالم. 

مليون كتاب في جنديسابور

هكذا تمكن الساسانيون من انشاء المجمع الموعود بسواعد الجنود الروم الأسرى، في منطقة "جند يسابور"، جنوب غرب المحمرة. ليكون لدى بلاد فارس أول معرض علمي عالمي وأول مكتبة ضخمة حوت التراث الفارسي والصيني، والهندي وأول مدرسة للطب والحكمة. ومع الحملة ضد غير المسيحين، أحرقت المكتبة العظيمة في الإسكندرية، فهرب بعض الملاحقين بما تمكنوا من حمله من كتب. وتوجهوا شمالا الى اكاديمية أثينا واستخدموا بعض قاعاتها مكتبة لوضع كتبهم فيها. لكن القرار بتبني المسيحية، تزامن أيضا مع التخلي عن الاهتمام الثقافي والعلمي. فصدر الأمر بإغلاق أكاديمية أثينا. وضاق بمن حمى الكتب، فحملوا كتبهم وركبوا البواخر ليقطعوا البحر شرقا وعبر الصحاري شرقا عبر الشام، وعلى تخوم الحدود مع الدولة الساسانية عرضوا طلبهم المتمثل باللجوء والحماية. فرحبوا بهم وبما حملوه من كتب كانت إضافة نوعية وفريدة لمكتبتهم الضخمة التي سيضاف اليها التراث الروماني الذي كان صعب المنال بالنسبة لهم بسبب الحروب المستمرة بينهما. فتكتمل المكتبة لتكون الاضخم والأكثر كتبا في اعدادها وتنوعها، حيث وصل تعداد الكتب فيها، حسب بعض المؤرخين، الى مليون كتاب في القرن الخامس الميلادي (ومن أجل القاء الضوء على ضخامة المكتبة، يمكننا استحضار حقيقة أن مكتبة الكونغريس وصل عتبة المليون كتابا عام ١٩٠٥). كانت جند يسابور في أوج مجدها حيت الفتح الإسلامي لبلاد فارس عام ٦٤٢م.  والتقت فيها حضارة اليونان بحضارات الشرق بفضل العلماء السريان وكانت لغة العلم فيها اليونانية، والفارسية، والسريانية، والعربية. وكان لها مستشفى يعد من أكبر المشافي في العهد ما قبل الإسلام كما كانت جند يسابور أكبر مركز علمي وفيها امتزجت الثقافات الاغريقية والسريانية والفارسية والمسيحية

لازال فعل اللحظة التاريخية

بعد توحيد معظم مناطق الجزيرة تحت راية الإسلام انطلقت مسيرة الفتوحات الإسلامية عام ٦٣٢ للميلاد. ولازالت نافذة اللحظة التاريخية وكآنها تعمل على تهيئة الأرضية لصالح المسلمين الذي سيبدأ حضورهم العقائدي في بداية القرن الخامس، وسينطلق مسير حضارتهم واحتكاكهم مع الأمم الأخرى في بداية القرن السابع. وكان أكبر كيانين مجاورين لها حينها، هما الفرس والروم وكانا في أسوأ حالاتهما، حيث دبت بعض الخلافات داخل الإمبراطورية الفارسية مما مكن المسلمين الذهاب على تخوم الحدود الشامية مع الدولة الساسانية. فتمكنت الجيوش المسلمة برغم نقص العتاد والرجال نسبة لما عند أعدائهم، من كسب حروب المسلمين مع الغرب والشرق. وتمكنوا من الفتح والاستيلاء على مفاتيح التحكم في بلاد فارس، وتزامن ذلك مع انحسار دور الإمبراطورية الرومانية. 


العرب في جنديسابور

كانت من أوائل طلبات المسلمين مع دخولهم بلاد فارس ان يتوجهوا الى مجمع جند يسابور، فكانت هي أولى وجهاتهم الذي ابهرهم ما فيها وطرحوا اسئلتهم عما يرونه وما يعنيه وكيف يستفاد منه. وطلبوا أن يتم تعليمهم فك الحروف. فهذا المكان فيه من كل تراث حضارات المعمورة. نهلوا العلم منها وخلال أقل من ثمانية عقود تقريبا، إذا بأمة النبي محمد ص تتربع على عرش اقوى امة في العالم، وأكثر الأمم تقدما في علوم الفلك والفلسفة والرياضيات والبصريات والجبر والكيمياء وكل أصناف العلوم. فها هم أتباعه وهم لا يشكلون أكثر من ٢٪ من البشر يحكمون ٦٠٪ من مسيحي العالم ومعهم البوذيين والهندوس وغيرهم من اتباع الديانات الأخرى اللذين يقطنون بلاد الاسلام. وفي جند يسابور يصنعون مجدا علميا وحضاريا جديدا حيث بدأ الكندي بحركة الترجمة من اللغة الاغريقية الي العربية ليتيح لمزيد من المتعلمين، وها هو الخوارزمي يتفنن الرياضيات ويقدم ابداعاته في الجبر والرياضيات ويتتابع العلماء في شتى المجالات والعلوم والفكر، والفلسفة، والفلك، والرياضيات. 


العرب تغيروا جوهريا

هذا المجتمع المسلم لم يعد كما كان قبل البعثة الإسلامية. لقد تغير عميقا وأصيلا. وعندما نستعرض آراء المفكرين بغض النظر عن موقفهم من الإسلام، في السبب الذي مكن المسلمين من الانتقال من ذلك المجتمع الجاهلي والمشتت والبائس الى المجتمع الذي يحكم أكبر امبراطورية على مستوى العالم وتتقدم على غيرها من الأمم بما تقدمه من علوم مختلفة، سنجد شبه اجماع على أن السبب في هذا التغيير الجذري هو الإسلام كرسالة هو ما غير القناعات فهو من غاص عميقا في أنفسهم وحرك الفضول لديهم وقدموا للعالم صفحات مليئة بمنجزات علمية في زمانهم ولازالت بعضها تشكل أساسا لبعض العلوم في زمننا الحاضر. منجزات يصعب حصرها وتتتابع العطاءات لينظم اليهم (بطليموس العرب ) ابن الهيثم الذي ابتدع المنهجية العلمية في الاثبات العلمي عبر التجربة والتي لا تزال يتبناها العلم الحديث بالرغم من نسبتها ل فرانكو باكون الذي أتي بعد ابن الهيثم بقرون طويلة ، وينضم أيضا الطوسي الذي طور مزدوجة الطوسي، التي  ومع ما قدمه ابن الشاطر كان لبنة أساسية  للوصول لإثبات دوران الأرض حول الشمس  والتي تمت نسبتها لكابيريانوس الذي احتفى به الغرب  ونسبها اليه بعد عدة قرون من تدوين ابن الطوسي وابن الشاطر لها من تدوينهم لمزدوجة الطوسي واستنتاج ابن الشاطر.  هذا السرد السريع الذي يلقي الضوء على تغير المجتمع في الجزيرة العربية وعكسه مسيرته ١٨٠ درجة وتحركه السريع وبتسارع كبير وبخطى ثابتة وطموح عال ليتسيد العالم والذي كان أساسه الدين ورسالة الإسلام، يدلل على الارتباط الوثيق بين العلم والدين، وانهي بهذا المثال الأول. 



المثال الثاني

وللبدا بالمثال الاخر الذي يدل على العلاقة القوية بين العلم والدين، سأستحضر هنا كيف كانت مكتبة الإسكندرية منارة كبيرة دفعت حكام بلاد فارس بالسعي لبناء شبيها لها وكانت جنديسابور.  كما من المهم استحضار قرار الإمبراطورية بتبني المسيحية دينا، ومن ثم قرار ثيورودوس الذي قام بحصر الديانات المعترف بها في إمبراطوريته في المسيحية فقط (غير الاصلية بطبيعة الحال، فهي بخلاف المسيحية التي أنزلها الله) وملاحقة من لا يدين بالمسيحية من اتباع الديانات الأخرى واللادينين. وكان لذلك القرار، الكثير من النتائج السلبية على مجتمعه وعلى مستواه العلمي والثقافي وعلى السلم الأهلي لبلده. فانتشر القتل والتشريد والتضييق على المثقفين والمتعلمين وهرب هؤلاء الى ملاذا ت آمنة كأثينا، ومنها لبلاد فارس بعد قرارات معادية للثقافة والعلوم بإغلاق مدرسة أثينا. كل هذا لم يكن الا مقدمات لوضع المجتمع الأوروبي خلال فترة قصيرة، تحت حكم الكنيسة.  فما نقل من ممارسات خلال فترة القرون المظلمة في اوروبا، ومقدار الجهل والتخلف الذي عاشته شعوبهم، بما وصفه التنويريون اللذين اتو لاحقا وانتفضوا على الكنيسة، بادعاءات ربما في بعضها مبالغات، انها قتلت وحاكمت وعرقلت تطور الناس الا انها تملا الكتب.  و


بالتزامن مع هذه، لا ينبغي اغفال أمرين. الأول يرتبط بالدور الذي قام به الفلاسفة المسلمون الفرس والفلاسفة اليهود والمسيحيون والعرب المسلمون اللذين قاموا بإنجازات فكرية كبيرة وكانوا السبيل للحفاظ على التراث الإنساني الذي تم نقله لاحقا الى وروبا.  والثاني متعلق بما شهدته أوروبا في تلك الفترة الزمنية من انتشار  الامراض المختلفة يتقدمها الطاعون الأسود و فتكه بالناس وكيفية تعاطي الناس معه تشخيصا وعلاجا تحت سلطة الكنيسة، والذي ساهم بشكل كبير في توطين خرافات "النساء الساحرات"، و ابتداع طرق وادوات وتقاليد لمطاردتهم لأن الكنيسة انطلقت من قناعة أن الساحرات كانوا السبب في انتشار الامراض وبالذات الطاعون. فاخترعوا مستظلين بتعاليم القاطنين في الكنيسة، طرقا لا يقبلها العقل لمعالجة العلل والامراض وحل المشاكل بين ابناء مجتمعهم. وتفشى عندهم تدني مستوى النظافة وبدائية الاهتمام بالصحة وعدم الاهتمام بالنظافة العامة والشخصية، ورمي القاذورات وفضلاتهم البشرية في الشوارع للحد الذي دفع علية القوم، لبس القبقاب المرتفع كي يتفادوا الفضلات التي تفترش الشوارع. ومن مظاهر التخلف أيضا، تشريع ساحات المصارعة في اوروبا لحل الخلافات، وتراجع العطاء العلمي والفكري الى أدني من الصفر.  


كل هذا وأكثر، هي شواهد على التخلف العميق الذي عاشته الشعوب الأوروبية. ومرة اخرى، من يتأمل ويأخذ بكل ما اتى في كتب التاريخ سيجد ان من قام بإدارة أوروبا باسم الدين (بقراءته البعيدة عن الدين) تسبب في انتكاسة العلم وانحساره وتراجع دور الشعوب في مشاركاتها في المجالات العلمية والإنسانية. ليعطينا هذا دلالة في مفصل زمني آخر وفي مساحة جغرافية أخرى على انتكاسة المجتمع عندما تم حجره في دائرة التبعية للكنيسة التي عزلت نفسها عن المعطيات العلمية لتقف العصور المظلمة الأوروبية شاهدا على وجود الرابط الواضح بين العلم والدين. 

فؤاد 

٢١ جون ٢٠٢٥


تعليقات