أي منبر ينصف عاشوراء حقها؟!
للمنبر على المستوى النظري والعملي دور كبير في احياء عاشوراء الحسين ع للناس. ويحظى منبر عاشوراء باهمية بالغة لعدة عوامل ومسوغات لسنا هنا في وارد الحديث عنها. لكن اهمية عاشوراء التي اكتسبها عبر القرون منذ البذرة الاولى في زمن النبي محمد ص في حديثه مع ام المؤمنين أم سلمة ع عن شهادة الامام الحسين ع ازدادت في النفوس ، وتفاوتت مكانتها على ارض الواقع عبر الازمنة التي مرت بها الامة الاسلامية، وتنوعت اساليب وطرق ومادة ومراسيم الاحتفاء بها عبر التاريخ والجغرافيا والثقافة.
تنوع اداء المنبر يمكن اجماله في ان محتواه ينتمي للمساحات التي يحدها في احد اطرافه : تناول عاشوراء باستحضار المرويات في كتب الحديث والتاريخ والادب ووضعها امام المتلقي، واحيانا غالبة بدون تمحيص او ايضاح للمتلقي عن مستوى الموثوقية ومصدر الاطمئنان لصحتها ، فتذهب للمتلقي وتسري في المجتمع مسير المسلمات. ويمكن ان يكون هذا هو الاغلب وسط المجتمعات التي تحيي عاشوراء.
اما الطرف الثاني فهو حديث نوع ما، ويتمثل في محاولة جعل المنبر يجاري بعض العطاءات العلمية في مجالات العلوم الاجتماعية والنفسية والفلسفة واحيانا بعض معطيات العلوم التطبيقية منطلقين من ان هذه الامور ربما هي ما يشكل تحد لدى الشباب عندما يرون عطاء العلوم المهيمن على مجتمعات الارض بما يظهر الدين وكأنه منكمش دوره في حركة المجتمعات. وبالرغم من وجود بعض المعالجات الجادة والمهمة الا ان ما يغلب عليها او لنقل ان ما يصل للكثير من المتلقين ، هي محاولات لاقتباسات ، قصرت او طالت ضاقت او توسعت، لنتاج اناس انشغلوا في مجالات في الفلسفة وفي العلوم الاجتماعية والنفسية كانت وليدة بيئة ومقدمات عاشتها مجتمعاتهم يكاد يكون من الصعب ايجاد مشتركات بينها وبين المجتمعات التي تقيم مراسم عاشوراء. وبين هذه المعالجات ما يظهر انها تتبنى القفز على المساحات الشاسعة التي تفصل الحد الاول المتمثل بالاستغراق في التراث بدون تقييم له الى الحد المتمثل في جلب معطيات مجتمعات اخرى تتبنى ما اصطلح هليه الحداثة ، او ربما ما بعدها ، واستحضار مقولات وأفكار ورؤى واقتباسات ولدت من قبل من هناك حاجة لمعرفة تاريخه وسيرته وتشكل شخصيته، ومعرفة البيئة التي تشكلت فيها قناعاته ونظرته للحياة وفلسفته فيها. وبين الطرف الاول والطرف الثاني طيف واسع لا متناه من المواضيع واساليب معالجاتها.
اتذكر ان من اولى المقالات التي كتبتها كان في فترة ادخال الحاسب الالي المكتبي للسوق واضافاته المتتابعة، تطرقت فيه للمصطلحات التي استخدمت في تسمية اجزاء الحاسب ووقفت مليا عند الفأرة!! واستحضر بعض التعليقات التي كانت تعبر عن عدم ارتياح لهذا المسمى (الفأرة) كجزء من الحاسب. "جيب الفأرة" ،" اشتر لي فأرة" ، و"وين الفأرة" والتي كانت تحتاج لشرح مبسط لمن هو بعيد عن اجواء الحاسب واستخدامه الذي لم يكن واسعا بل محصورا جدا. الاسم لا يلائم ثقافة العرب ولا يناسب بيئتهم. فلدى العرب موانع وحواجز تقف دون استخدام مسمى الفأرة "النجسة" على هذا الجهاز الذي يحتضنه بكفه.
مرة اخرى، عن عاشوراء وفي ايامها التي ستبدأ قريبا نتحدث. كما في حال الفأرة ، دوما ابدي تحفظي الشديد على اقتباس بعض المصطلحات والمقولات من البيئات الاخرى وخصوصا البيئات التي هي في عمق معانيها بعيدة عن مجتمعاتنا في توجهاتها الدينية، وخصوصا اذا اقترن اقتباسها محاولات لاسقاط تلك المقولات على المجتمع المحلي، تصريحا او تلميحا. فالمقولة التي تقتبس لا تنحصر في شكلها حروفا انتظمت في كلمات وكلمات تتابعت لتشكل معنى فقط. بل ان اي مقولة تقال، هي في حقيقتها انعكاس لعدة امور انتجت هذه المقولة. هي ربما تكون انعكاس للشخص وما يؤمن به وما يمر به في ظروف اطلاقها على المستوى الشخصي، وعلى مستوى المجتمع، وكذلك هي قد تحمل بصمات البيئة التي يعيشها وهو على تماس معها. يحدث هذا ليس فقط في الانسانيات بل حتى في العلوم البحتة وربما احد الامثلة ، تورنينج صاحب الآلة التي طورها لاختبار ان كان مالدينا هو ذكاء انسان او ذكاء مصطنع! اقول مصطنع وليس اصطناعي لقناعتي ان الاصطناع هو ما يحدث، على الاقل حتى الان، ، فالقائمون على ذلك يصطنعون في الآلة ذكاء جديدا ولا يصنعون ذكاء الانسان فيها!!
اذا كانت مقولة تحمل الكثير فيها ، ونحتاج ان نعرف كل ذلك من اجل تفحص ملاءمة المقولة من عدمه لمجتمعنا، فمن باب اولى أن يكون هناك تحفظ اشد على اقتباس مواقف ورؤى اجتماعية او نفسية او اقتصادية او انسانية بشكل عام. اعني بها التي تشكلت في بيئاتها التي لا تتقاطع مع بيئاتنا على المستوى العملي الا في اضيق الحدود. فاقتباسها واسقاط تطبيقها في مجتمعاتنا بدون فحص الظروف المحيطة بتكونها المتمثل في البيئة التي احتضنت دوافع واهداف تطبيقها هناك هو عمل لايتوافق مع المنطق السليم. .
نعم ، قد يكون في استلاف المقولات نوع من الترقيع الناعم . لكن في استلاف الافكار والمواقف ترقيع واسع ربما ينتج تشوهات فكرية اذا لم يتم دراسة بيئة ودوافع واليات انتاجه وتطبيقه في الغرب، ومعرفة مقومات ومؤشرات نجاحه التي اولها مناسبة بيئة ودوافع وشخصيات تلك الرؤية او الموقف، لمجتمعنا او تكييفه بما لا يجعله نشازا.
وبطبيعة الحال ، لابد من الوقوف عند بعض المفاصل التي يبرز فيها ان ما يطرح فيه خلفيات ودوافع ومقومات قد تتعارض مع المحددات التي ينتظم فيها المجتمع ، فلايمكن الاخذ بها وان كانت نتائجها هناك ايجابية مما يجعل تبنيها جاذبا ومشجعا!!
في الخلاصة، التحديات التي تواجه وستواجه المجتمعات الاسلامية تحتاج الى اطروحات تواكب هذه التحديات. وهذه الاطروحات الجديدة لايمكن ان تتشكل الا مع قراءة الواقع وقراءة الاسلام بعمق ينتج عنه طرح جديد في جوانب مختلفة من الحياة وتتكامل هذه لتشكل اطروحات متكاملة للدين في هذه المجتمعات. وللاسف نحن ابعد ما يكون عن هذا .
بطبيعة الحال، وكوننا بعيدين عن هذا كثيرا، فالمحاولات الواعية والمدروسة بعمق لتطوير المنبر على طرفي المعالجات ضرورية وتسهم في رقيه واخذه لمستوى اعلى متقدم. ففي الطرف الاول ، ان تمتع من يرتقي المنبر بوعي عال وبثقافة مناسبة وبضمير حي في نقل ما يمر عليه من التراث والروايات والاحداث بحيث يتحقق من كل تفاصيلها في مصداقية حدوثها وفي حقيقة معانيها ونسبتها للاشخاص ودلالاتها وتبعاتها بشكل منهجي يضع امام المتلقي مجسما متخيلا للرواية يتشارك معهم في تشخيص مواطن قوتها ومواطن ضعفها ليكتسب المتلقي ثقة فيما يسمعه ويتمكن من بلورة موقفه الذاتي مما ينقل اليه عبر مراجعات المرويات والمراجع التي تحويها. وفي الطرف الثاني فحص ما يبدوا جميلا في ظاهره من مقتبسات من الغرب من مقولات او أفكار او اطروحات، للنظر في اساسها ودور المحيط المجتمعي في تشكلها والمشتركات الموجودة مع المجتمع الاسلامي ان وجدت ومواطن الاختلاف كذلك وانعكاس كل ذلك على فهم اثرها في المجتمع الاسلامي وتبعات تبنيها في قبالة تبنيها لدى المجتمعات الام لها ، التي نشأت فيها هذه الفكرة او الاطروحة.
في عاشوراء وهو ما حرك كل هذا الحديث، هناك خطباء كبار يدفعون للرقي بالمنبر، وتتعدد اوجه الاضافات التي يتاملون منها ان ترتقي به اسمي منبرا فكريا او غيره، فلا تهم التسميات.
ما يهمنا هو ان يكون المنبر الذي يحيه عاشوراء هو ناتج عن رؤية شاملة وعصرية للمجتمع وحركته التي نشهد وللدين. ومن هذه الرؤية الشاملة تتبلور رسالة المنبر الذي يرتقي بالمجتمع. وما يهمنا هو ان لا تكون اي محاولات للرقي به ، هي محاولات تاتي اولا، ولا رؤية ولا اطار نظري شامل يحكمها انطلاقا من فهم الدين والمجتمع، بل تظهر كانها مبادرات بعضها يقفز بخطاب المنبر لمستوى نخبوي يحسب متبنيه انه يخدم بذلك المنبر، او بخطاب علمي يتامل من ذلك سد فجوة العلم التي يتوقعون انها سببا لبعض مشاكل المجتمع، او بخطاب يعتمد فيه على ما لدى الشعوب والمجتمعات الاخرى ويتعاملون مع تلك الاقتباسات بقدر من المقبولية في نسبتها ومعانيها، ربما يكون احيانا بمستوى اعلى من مقبولية ونسبة ومعان المرويات من التراث الاسلامي. كما انهم يقومون بذلك دون ملاحظة ما تحمله معها من معان ثقافية قد تكون دخيلة وتتعارض مع قناعات المجتمعات ، حتى وان كانت " تزين" الخطاب باسماء ربما يراها المتحدث انها تبهر ، ومقولات "تلفت"، ومواقف "تقنع" و اسلوب " لابد ان يتبناه مجتمعنا" وسياقات يجد فيها البعض "ضالته" وكأن النجاسة لا تتجسد الا في مثل تلك "الفأرة" التي تحتضنها الاكف قبل وبعد الصلاة دون الحاجة لتجديد وضوء الصلاة.
ويبقى ان التدقيق في ما يطرح على المنابر من مرويات من التاريخ والاحاديث والاحداث في مصداقيتها اولا، والتمحيص في اصل ما يقتبس من المجتمعات والثقافات الاخرى ودراسة انعكاساتها و افرازاتها الاجتماعية ثانيا ، وثالثا الاستفادة من المعطيات العلمية العالمية للرقي بعطاء المنبر ورابعا البساطة في الطرح ونقل الواقع الذي حدث كما هو بدون اضافات لإبهار المتلقين او تشويقهم فاحداث كربلاء وعاشوراء غنية بما يكفي ربما لإبهار كل ال ٨ مليارات نسمة مؤمنين وغير مؤمنين ومعاندين، وفيها من المواقف والاحداث والدروس التي تدفع الجميع للاستماع وتلقي ما يتبقى من احداثها. فلربما هذا يشكل خطوة في السعي لايجاد منبر ينصف عاشوراء حقها!
مأجورين مثابين في ذكرى خروج الامام الحسين ع من مكة، وكل التوفيق لاحياء النفوس في عاشوراء!!
فؤاد
١٦ جون ٢٠٢٥
تعليقات
إرسال تعليق